إضمن لي أنك ستثبت..
وأضمن لك أننا سنلتقي..
وأحدد لك مكان اللقاء..
أنه هناك عند الظل.
الظل الذي لا يزول..
د. أحمد خيري العمري
"غريب في المجرة"
كان لا بد أن يحدث ذلك.
حشوة بندقية ضابط عسكري, وحشوة قلبي من الحب
والشوق, كانتا الرصاص القاتل بعد غيبوبة طويلة في الأحلام.
لن أستأذن ذاتي الطيبة لأعلن أنني سأتمرد بعد
اليوم.
الفرق بين القوي والضعيف ليست قدرات, وإنما هي
المشاعر الخفية, الوعي المكتوم, لحظه الخذلان.
لم أتسائل كثيراً عن عزلتي وغربتي, ربما لأنني
وضعتُ مقياساً خالف مقاييس الجميع, وأنتِ أولهم.!
ولكن لم تُرجفني هذه التجربة سوى أنني عشتُ فيها
بين جبنِ الموت وهيبة الرجولة, وكلاهما لا يجتمعان.
كل شيء كان يستمع لصوتِ الضجيج الذي بداخلي.
وأنتِ, تقِفين أمام شرفة الشباك, غارقه في حزنك,
وغارقٌ انا في الألم حد الإختناق.
يأتي ابنكِ إليكِ, وتذرفين دموع الخذلان, وترمين
بعناقكِ له كل الألم, وكل الأمل!
يشتعل في قلبكِ الشاب الذي لا يشيب كل المشاعر
الصامتة, كل الأفكار المختلطة, وترمين خلف الطريق قصاصات ذكرياتكِ.. لتمضي!.
لكنها لم تكن خطيئتي, إنها خطيئة القدر.
في المنفى انا يا سيدتي, ولكن, لأنكِ وطني, ومازلتُ
أعيش فيكِ, فلم أعد منفياً انا.
ألم أقل لكِ.. أنكِ فقط الوطن.
********
هل تذكرين نوفمبر المنصرم؟ ووقوفي تحت المطر,
وصوتُ ضحكتي على جنوني, وجديّتكِ في الموقف, وإصراركِ على انصرافي, وقشعريرة
البردِ والإنفلونزا التي أصابتني بعد ذلك, ظننتكِ ستشمتين بي لأنني عاندتُك
بالوقوف, لكنكِ لمتني بحزن, وبقيتِ على اتصالات معي طوال الوقت, وعلى خوف مستمر.
هكذا أنتِ, تجعلين من كل صغيرة كبيرة, ومن كل بسيط
أمر معقد, على الرغم من بساطتكِ الكبيرة, تخنقينني في بعض الحالات لتصرفكِ هذا,
لكن حدة تعاملي معكِ وصمتكِ المجروح يعيقُ محاولات معاقبتي لكِ, تعلمين أنتِ نقطة
ضعفي, وتُضعفيني أكثر بضغطكِ عليها, دون قصد او علم لكِ بذلك.
********
السابع من يوليو , من سنة, حيثُ كان يوم تخرجي من
الجامعة, كم كان يوماً جميلاً, كوميدياً!.
تبدعينَ أنتِ في استغلال الفرص لجعلي سعيداً,
جلوسكِ بين الناس وبين أهلي دون التقائِكم كان منظراً جميل وانا أستلم شهادتي وأقف
لالتقاطِ صورة مع رئيسِ الجامعة,ضجة وفوضى واكتظاظ الناس كلها لم تكن لتلهيني عن
النظر إليك, جاءت عيني عليكِ في لقطة سريعه شاهدتُكِ فيها تدمعين وفي مرة أخرى
كنتِ تضحكين, التقطتُ الصورة وعقلي معكِ يفكر ما تفسير ذلك, ثم هممتُ الى أهلي
وعانقاني بشدة, ذرفت أمي الدمعَ وقبلني أبي.
لم يكن عندي صبراً لأغيبَ عنكِ أكثر, أخبرت لأهلي بأنني
سأذهبُ لرؤية أصدقائي ثم أعود, شدتني أختي جميلة وهمست في أذني بلهجةٍ منكرة:
أصدقاءك!؟ أم تريد أن تراها؟!
شديتُ على ذراعها هامساً : اصمتي.
ثرثارة جميلة, لكنها طيبة ومسالمة, تعرفُ بقصتي
معكِ, وتساعدني في بعض الأوقات في أمور تخصكِ, اشتدت علاقتي معها بعد سفر أخي أيمن
الى إنجلترا, تخرج وتزوج ثم سافر ولم يلبث بالعودة, كان يكره البقاء في البلاد,
فكانت جميلة هي الأخت والأخ لي, ربما لم تحظي بمعرفتها ياسمين حتى الآن, أنتِ فقط
تعرفينها بحديثٍ عابر, وصورة خيالية.
حينما وصلت إليكِ قلتِ:
فلنبتعد من هنا لألا يرانا أحد.
وفي طريقنا حيثُ مقعد فارغ عند الزاوية :
لماذا كنتِ تدمعين وانا على المنصة؟
بعد صمت قليل : ذرفتُ الدمع دون تكلف او قصد وانا
أراكَ تتخرج وتستلم شهادتك؟!
أردفتُ بعد ابتسامة : اذاً, لماذا ضحكتِ بعد ذلك؟
ضحكتِ بصوتٍ مرتفع وبعد حين أجبتِ ومازلتِ تضحكين:
لا أتمالكُ نفسي عند تذكر الموقف, جلال لقد أخذ رئيس الجامعة ينظر إليك رافعاً رأسه
من طولِك وقِصره وأنت لا تكترث له تنظر الى الكاميرا مبتسماً حتى أن الصورة
ألتُقطت مرتان لأن أولهما كانت وهو ينظر إليك.
ضحكتُ بصوتٍ عال وقلت: حقاً؟
- لم تنتبه له قط جلال, وهذا ما زادني ضحكاً.
ضحكت, وأخذت أتذكر علّي أذكر كيف مرَ الموقف,
تابعتِ:
لقد انتبه لذلك الجميع, وأغلبهم ضحك, حتى أهلك
وجميلة ضحكوا كثيراً.
ضحكت قائلاً: حقاً؟ والله لم أكن أنتبه على شيء,
وقوفي ونظراتُ أهلي ونظراتكِ أربكتني لم أكن ملماً لكل ما يحدث.
- لكنك كنت جميلاً, ولا بد لي من نسخة لصورة
اليوم, ذكرى جميلة جداً.
- وجودكِ معي وحده يكفيني لكل ذكرى جميلة تمر
علي, وسيكون يوم تخرجك يومٌ جميل أيضاً كهذا, لكن الرئيس سينظر إليك خافضاً رأسه
وسأضحك انا وقتها.
ضحكتِ بشدة, ثم هممتُ انا للذهاب واضعاً قبعة
النجاح على رأسك, وقفتُ قليلاً مع أصدقائي ثم عدتُ الى أهلي, بعدما أطمئننتُ أنكِ
قد غادرتِ المكان.
********
منحاني والديّ حرية الإختيار, في كل شيء, حينما
دخلتُ كلية الهندسة كنت على يقين بأن هذا هو مستقبلي الرائع, ساعدني والدي في
شراء مكتب هندسي في وسط المدينة بمبلغ كبير, ولا سيما أن ذلك وحده كان فخراً
لوالديّ, لذلك, فإن اختيار شريكة حياتي كان أيضاً حق اختيار لي وحدي, أمي كانت
تعلم جيداً أن اختياري ربما لا يُعجبها, كأي أم تريد المواصفات المثالية لزوجة ابنها,
وترغب أن تختار له بنفسها, لكنها كانت تمتنع عن إجباري, لأنه بكل الأحوال لن
يعجبني, وسألومها على كل مشكلة قد تحصل, وعلى كل تعاسة قد أصادف, لذلك, كنتُ
دائماً اسعى لإقناعها بأن اختياري هو مسؤولية سأحتملها وحدي, وبكل ما تحمله من
عواقب.
ربما أنتِ كنتِ المرأة المثالية, لا سيما في نظري
فحسب, تعرفين كيف تشتاحين قلبي في المواقف جميعها, تمتلكين براءة وبساطة كبيرة
جداً, تتصرفين بهدوء, تعرفين ما أحب وما أكره, ما أحتاج وما أفكر, أظنكِ في بعض
الأوقات تقرأين كتباً عن الرجال, او تعرفين ما يحتاجون تماماً, دون اللجوء بالفعل
لذلك.
مثالية أنتِ في طباعك, ربما تحملين مساوئ جمّة,
لكنني غالباً لا أكترث لها, لا سيما لأنك لا تفسحين لي مجالاً لأراها.
جمالك أيضاً مثاليّ, عيناكِ الناعستان, قوامكِ
الممشوق, طلتكِ البهية, شعركِ الناعم, الطويل اللامع.
كل شيء فيكِ رائع, كان ليعجب أمي كثيراً, ويعجب الجميع, كان جمالكِ
حتماً أمراً مميزاً, يشهد له الجميع, أظن أنكِ كنتِ أجمل فتاة بالجامعة, دون مبالغة,
الكل يتحدث عنكِ بوصف جمالكِ أولاً, تغار منكِ الفتيات, وأُخريات تمدح ما تملكين,
أتذكرُ كم مرة أقبلت إليكِ فتيات لتتعرفن عليكِ رغبة في اصطحابِ فتاة بجمالك, وكم
كانت العيون تُسرق إليكِ بكل مكان, وكان هذا ما يثيرُ جنوني أحياناً, وما يشعل بي
نيران الغيرة, والله لا أتردد لحظة في قتل كل من فكر في النظرِ إليكِ.
ما كان جمالك ناقص, وما كان عندكِ عيب, كنتي مثالية,
مثالية جداً يا ياسمين.
ربما لأنني أحبك, أحبك كثيراً, أراكِ الحياة وكل
نساء الأرض, في الحقيقة انا لا أكنز الوفاء المبالغ فيه بقلبي, وإنما جمال عينيكِ وفتون قلبكِ جعلني أسيراً في
زنزانةِ الحب والوفاء.
حبي الشديدُ لكِ كان كوليمة شهية أريد التهامها,
وكان حبنا أشبه بحرب صامتة, كمن يجمع السلاح في ذخيرته استعداداً لحرب صعبة, فلا
أعلم هل هذا الصليب الذي تزينين بهِ عنقكِ هو حربنا, أم هو عقبة سنجتازها بحبنا,
ماذا يعني لو كنتِ من ديانة غير ديانتي, ماذا يعني لو كنا مختلفين بهذا فقط؟ ألست
أحبك؟ ألسنا متفاهمين ومتجانسين؟
*******
اليوم هو الثلاثاء, وفي تمام الساعة الثانية سيكن
موعد خروجكِ من الجامعة, هكذا انا, أحفظ كل ما يخصكِ, لأنني أراه يخصني أيضاً.
كنتُ هناكَ قبل موعد خروجكِ بدقائق, وحال خروجكِ
من مبنى كليتك إعتدلتُ الوقوف ورسمتُ ابتسامتي, لتنظري إليّ بشغفٍ وتبتسمين بحرارة,
ثم تودعين زميلتكِ التي ترافقك وتأتين اتجاهي,كنتِ ترتدين قميصاً أسوداً ضيقاً,
أزراره ذهبية اللون, وشعركِ مرفوعاً كذنَبِ الفرس,قلتِ :
ما الذي تفعله هنا؟
- أنتظرك.
ساخرة: ها!
ظننتك تنتظر شخصاً آخر.
- ما رأيك في عزيمة غذاءٍ فاخرة؟
- لا يمكنني جلال, سأتأخرُ بالعودة للبيت.
أخذنا نمشي سوياً, وعند مقعدٍ فارغ أشرت بيدي لكِ
لتجلسي,وبعد صمت:
ماذا لو مُت, ستتزوجين من غيري؟
- ماذا لو تصمت جلال, وتفتحُ حواراً آخر.
ضحكت : أجيبيني وسأفتح حواراً آخر.
- عنيد!
- أجيبيني.
- لا, لن أتزوج من غيرك, من أين سأجدُ جلالاً
آخر.
ابتسمت, وددتُ ان أعانقك في تلك اللحظة, متقِنة
أنتِ في اختيار ألفاظكِ التي تخترقني. قلتِ:
كيف يسير عملك في المكتب؟
- على أتم حال.
بلهجةٍ مازحه: كن دائماً متقناً في عملك, فهذا
مستقبلنا.
ابتسمت : وماذا عن زواجنا, مستقبلنا أيضاً, كيف
تحلمين أن يكون؟
- لا أكترث لأن يكونَ مميزاً وحفلاً ضخماً,
يكفي أن نتزوج ونكن معاً.
- غريب! جميع الإناث غالباً تحلم بحفل ضخم
وفستان مميز, وتخطط لهذا اليوم منذ الصغر.
- ومن قال لك أن كل الإناث متشابهات! لكلٍ
أفكاره ومبادئه.
- عجيبٌ أمركن أنتن الإناث,تكرهن التشابه
ببعضكن بجنون.
قلتِ بغضب: ومن قال لك أنني أكره ذلك, ألم تقل لي
بنفسك أنني لا أشبه أحد, وأنني مميزة عنهن, بالرغم أنني لا أكترث لأثبت هذا, ما بك
تقول شيئاً ثم تنساه وتسخر منه؟!
ضحكت : ياسمين, والله قلتُ هذا سخرية ومزاحاً, لم
أقصد إزعاجك, أعلم أنني قلت هذا وها انا أقوله ثانية.
صمتِّ, وأستدرتي وجهكِ عني, تابعت :
الإناث في قانوني أنثتين, كل إناث الكون أنثى, وهذه
لا أكترث لها, وأنتِ وحدكِ أنثى أخرى, إن الحب أن أراكِ غير كل الإناث يا ياسمين.
استدرتِ اتجاهي وابتسمتِ محمرّة الوجنتين, ثم
وقفتِ وقلتِ :
يجب ان أذهب لألا أتأخر.
- حسناً سأوصلك اذاً.
- لا داعي لذلك, أذهب وحدي.
منكراً: هل سبق وأن كنتُ معكِ وتركتكِ تذهبين
وحدك؟
اشرتِ برأسكِ نفياً, فقلت:
إذاً, هيا نذهب.
********
إن لم تكوني لي.. فمن يستحق أن تكوني له؟!
أنانيٌ انا, فيكِ فحسب.
تُرى كيف يعيشُ الإنسان حينما يخسر حُبُه؟ لطالما
جربتُ هذا بحبٍ عابر, وتكررت تجربتي خلال مراحل حياتي, لكن ليس كحبكِ أنتِ ياسمين.
حينما كنتُ في علاقة حب مع يارا, ظننتُ طويلاً
أننا لن نفترق أبداً, وأننا سنكن معاً حتى النهاية, لكن الحقيقة أن أغلب العلاقات
التي تبدأ في عمر مبكر تبات بفشل حاسم.
لا يمكنني أن أنسى يارا, الفتاة الأولى في حياتي,
أحببتها فعلاً في ذلك الوقت وبتلك الأفكار التي كنتُ أحمل.
أتذكر أنها كانت جميلة, كأي فتاة يغرمك جمالها
أولاً, ثم تبدأ أشياء أخرى تظهر خلال المعرفة تتقلص من هذا الجمال حتى يكادُ يختفي
في نظرك, ويمسي جمالاً للوهلة الأولى في نظر أي متفرج.
سهام, هي محبوبتي الجامعية, أحببتها في السنة
الثانية من دراستي, كانت تدرس التصميم الداخلي والديكور, كان التصاقُ كلياتنا عامل
مساعد لتعارفنا, وكذلك الأصدقاء المشتركين بيننا.
أحببتها لكن ببرود, لا يمكنني القول أنني أحببتها
فعلاً ذلك الحب الصادق الجمّ, كنتُ أشعر بفراغ عاطفي في تلك الفترة, وربما أحتجتُ
لفتاة او لحب يملّي هذا الفراغ, وكانت سهام هي الحب الذي بحثت عنه, كانت مزاجية
وفضولية جداً, استمريت معها حوالي سنة ونصف, ثم قُطعت أخبارها لفترة, وزاد البرودُ
بيننا, وانا لم أعد أتواصل معها, وقَطعتُ كل خيط ربما يصلني بها.
بالنسبة لي, كنتُ شخصاً مختلفاً في كل حالة حب. أبي
شخص رائع, رباني على قيمٍ سامية للغاية, أظن أن أمثال أبي اليوم ما عادت موجودة,
قيم الشهامة والإحترام والصدق والأمانة, وصفاتُ الرجولة القيّمة القديمة, منذ أن
كان عمري ست سنوات أبي بدأ يزرع ذلك بي, كان يريد أن يجعل مني رجلاً مثالياً, لا
يمكنني القول أنه أخفق, لكنني كأي شاب أراد الإستقلال في مرحلة مراهقتة والإعتماد
على نفسه والإحتفاظ بشخصية مخالفة تماماً عن ما يريد الأهل كان يقف حاجزاً أمام ما
حاول أبي صنعه.
لكن الجهد والزرع ما خاب وذبُل, حينما أصبحتُ
اليومَ رجلاً يُعتمد عليه, ويحمل تلك الصفات التي زُرعت به, أيقنت أن والدي لم يكن
مخطأً, وأن فترات الطيش هي مجرد مرحلة عابرة ستذهب يوماً ما.
لذلك, فإن حبي لسهام او حتى ليارا ما كان عبثاً او
تمضية وقت,صحيحٌ أنه لم يكن حباً حقيقاً, لكن مهما كان سيصل بي الحال معهما, ومهما
كانت نتيجة ذلك الحب, كان مؤكداً أنني لن أتجرأ على إيذاءِ أيٍّ منهما, او الغدر بهما.
واليوم, ياسمين, محبوبتي الأخيرة, التي أحببتها في
آخر سنة كانت لي في الجامعة, كان تعارفنا أمر رائع, تعبتُ جداً حتى تمكنتُ من
الوصول لها ولقلبها, وأخذت مني ياسمين وقتاً كبيراً حتى وصلنا الى ما نحن عليه
الآن من حب وثقة وإيمان بمستقبل واحد.
أتذكر ذات مرة أقبلتُ فيها إليك في مقهى الجامعة,
كنا قد تعارفنا عن طريق زميلة مشتركة لكن بصورة رسمية و سطحية, كنتِ تجلسين وحدك,
نظرتِ إلي بطرف عينكِ اليمنى وقد أستمريتي في قراءة كتابك الذي كنتِ تحملين, فهمتُ
أنكِ نظرتي لي هكذا لألا انتبه لمعرفتكِ بمجيئي, سحبتُ الكرسي الذي يقابلك :
هل يمكنني الجلوس؟
نظرتِ بسرعة إلي ثم عدتي للكتاب :
تفضل.
كيف الدراسة؟
تجيبين ومازالت عيناكِ في الكتاب : بخير.
لفت نظري شعركِ المتجعد اليوم, تعتادين أنتِ على
أبقائه ناعم, علّقت:
جميلٌ شعرك اليوم.
رفعتِ نظركِ إلي تارة دون أي ردة فعل, ثم عدتي
للكتاب :
شكراً.
استفزني صمتك وتجاهلكِ لي, كان على الطاولة دفتر
صغير, وضعته بعيداً عنكِ, حاولت العبث بأشياءٍ على الطاولة حينما قبض الصمت علينا,
تارة في علبة المناديل الموضوعة, ثم على أكياس السكر المرتبة, ثم أخذتُ اعبث
بالدفتر الموضوع دون حمله, فتحتُ آخر صفحاته, وشدني ما كان مكتوباً, فتعمدتُ
القراءة بصوتٍ عال :
لا نريد أن تترك لنا المال والثروة, بل نريد
الذكرى الطيبة, الأمانُ الهادئ, لنترحم عليكَ بذكراها.
رفعتِ نظركِ إلي بحدة, وجحرتني بنظرات قوية, سحبتِ
مني الدفتر بقوة, وقلتِ :
كيف تجرؤ على القيام بهذا؟! ومن أنت لتقرأ ما
يخصني؟
شعرت بالخجل من نفسي, قلت :
أعتذر, لكنني ظننت أنها مجرد عبارة.
حتى وإن كانت كذلك, ليس من صلاحياتك أن تتدخل فيما
لا يعنيك.
ثم قمتي فوراً وغادرتِ المكان.
لم أتمالك نفسي لترككِ بهذا الحال, او على الأقل
أن أترككِ غاضبة مني, ليس من مصلحتي ترك صورة سيئة عني في ذهنك, لحقتُ بك وسبقتكِ
لأقف أمامك, قلت وانا آخذ أنفاسي :
ياسمين, أعتذر, والله لم أقصد إزعاجك, صدقيني.
تابعتِ سيرك بسرعة وتجاهلتيني فوقع الدفتر ذاته
على الأرضِ باصطدامك بأحدهم, حتى سارعتُ لإلتقاطه, مددتِ يدكِ لأعطيكِ إياه,
فوضعتُ يدي التي تحمله خلف ظهري وقلت شعوراً بالإنتصار :
ها !.
قلتِ ومازلتِ تمدين يدك: أعطني إياه.
- ليس بعد, اسمعيني أولاً.
بغضب: ماذا تريد؟
- أريد أن تسامحيني.
- من أنت لتتحدث بهذه الجرأة؟!
- انا جلال!
نظرتِ لي باستغراب مضحك, كنتِ لتغيري ملامح الغضب
لتضحكي لكنكِ لم تفعلي قصداً.
استغليتُ ردة فعلك وتابعت باسلوب مضحك : ما بكِ لا
تقفين وانا أحدثك, ألم تسمعيني أناديكِ؟
- من تظن نفسك أنت؟ أعطني إياه هيا.
- قلت لكِ ما كان قصدي ازعاجك, هل كان يجدر أن آخذ
الدفتر لأتمكن من الحديث معكِ كلمتين فقط, صحيح أن التعامل الحسن لا يجيد, يا الهي
ما هذا!.
ابتسمتِ خلف ضحكة كبيرة, قلتِ بصوت خافت وأنتِ
تنظرين الى الأرض:
مجنون.
كلمتكِ تلك كانت رعشة حركت كل أعضائي, عشقتُ
الجنون معكِ, وكنتُ مجنوناً مبدعاً.
تابعنا صمت للحظات, ثم أخذتي نفساً طويلاً وقلتِ:
حسناً, فلتعطني الدفتر الآن.
- عذرتيني صحيح؟
- نعم نعم, أعطني الدفتر هيا.
بعد ذلك الموقف تتابعت لقائاتنا, في كل مرة نلتقي
يحدث أمراً وإن كان عابراً او تافه يشعل بي كل نيران الحب, ونيران الغيرة حينما
أراكِ تقفين مع شخصٍ آخر, او تحادثين أحد, وإن كان من زملائي, كنا نتبادل مشاعر
خفيّة, مجهولة لكنها جميلة, كنتُ أشعر أن نظراتكِ تهدي لي حباً, مع أنكِ لم تلمّحي
لي بشيء أبداً.
حينما دخلنا في قصة الحب العظيمة, وتبادلنا الثقة,
التي هي أجمل ما بيننا, سألتكِ مشوّقاً عن ما كان بذلك الدفتر, ضحكتِ حينما تذكرتِ
الموقف, ثم انتابكِ حزنٌ غيّر خطوط شفاكِ الضاحكة, عرفتُ أن تلك العبارة هي السبب,
لاطفتكِ بكلمتين, ودتُ أن أغير الموضوع لتنسي, لكنني كنتُ مصرّاً على معرفة السر هذا.
قلتِ بصورة مترددة أن والدكِ هو المقصود, سِرتُ
معكِ في الكلام والسؤال حتى فهمتُ منكِ أنه شخص عصبي, غير متسامح وبسيط, يحبك
كثيراً أنتِ وأختكِ الصغرى لكنه لا يُظهر, يعاتب كثيراً ولا يتقبل الأشياء بسهولة,
رجل متعصب الديانة.
هو ضابط في الجيش العسكري الإجباري, ضابط ذو هيبة
كبيرة, ومكانة مرموقة, غير متساهل, متعصب بالكثير من الأشياء, لكنكِ لطّفتِ صورته
بعد ذلك بمدحه طيب وحنون رغماً عن كل ذلك.
إنتابني خوفٌ كبير يا ياسمين, وليلتها لم أنم من
شدة التفكير, كيف لي أن أعرف أن والدك بهذه الصفات وأستمر معكِ بقوة, شخص متعصب,
غير متسامح, كيف لي أن لا أخاف, انا رجلٌ أعتدتُ أن لا أخاف من شيء, وأن لا يعيقني
شيء, لكنني معكِ بتُ أخاف, وكان خوفي لي وحدي, بقدر ما كنتُ شجاعاً وصلباً أمامك,
بقدر ما كنتُ أخاف يا ياسمين, لأنني على الأقل رجل واقعي.
*********
كبصمة الأصبع أنتِ, لا يوجد مثلكِ اثنين.
قلتِ لي ذات مرة, فلتحذر من بعض أحلامك حينما
تتحقق, لم أفهم ما كنتِ تقصدين, لكنني عرفتُ مؤخراً أنكِ تعرفين ما هي أحلامي,
ولذلك تطلبين مني الحذر.
اليوم, انا حذرٌ جداً يا ياسمين, حذرٌ حينما أتذكر
الواقع, وحينما أتحدثُ معكِ أحياناً, وحينما تسألني جميلة عنكِ, وحينما أريدُ
الحديث مع أمي بشأن مستقبلي معكِ.
تريدُ أمي أن أتزوج, هي تعرضُ عليّ بعض الفتيات,
لكنها تكون بأشد الحياد لأن يكون هذا عرض وليس أكثر, كانت آخر مرة تحدثَت معي بهذا
الموضوع قبل خمسة أشهر او أكثر بقليل, كنتُ قد فتحتُ مكتبي الهندسي حديثاً, وكنتُ
رافضاً التفكير بالموضوع ولستُ جاهزاً له, لكن أمي تحب إنجاز كل شيء بسرعة, تكره
التأجيل, هي تكره الصبر والإنتظار كثيراً حتى بتُ أخاف عليها من ذلك! , كانت قد
وصلتني رسالة استدعاء الى الإقبالُ للعسكرية, بعد آخر مرة وَصَلتني حال انتهائي من
الثانوية,كنتُ قد قدمتُ طلب تأجيل بسبب الدراسة وقتها, وبالإستدعاء الثاني عدتُ
لتقديم طلب تأجيل آخر بسبب الدراسة أيضاً, لأنني كنتُ قد بدأتُ بعد التخرج وفتح
المكتب بدراسة الماجستير, لكنني بعد شهر او أقل تركته, صحيحٌ أنه كان أحد أهدافي
المهمة, لكنني لم أوفّق بينه وبين العمل في المكتب خاصة في بدايات العمل و كوني
وحدي أيضاً.
لذلك فقد كان هذا الإستدعاء هو السبب الذي جعل أمي
تلغي فكرة الزواج وقتها والتفكير بي وبما قد يجري لي لو أنني فعلاً قد ذهبت
للعسكرية وتركتها.
اشتدّ النقاش بيننا هذه الليلة, تتسائل ما
الذي يمنعني عن الإقبال للزواج الآن, وأتحججُ انا بأمور غير مقنعة, عنيدة هي أمي,
تريدُ أن يحدث كل شيء كما تراه مناسب, وتريدُ الوصول الى النهاية في كل شيء, دون
الوقوف على أيٍّ من محطاتِ الطريق إليها.
تنظرُ إليّ مستنكرة :
تالله قل لي لماذا لا تريدُ الزواج الآن؟
- يا أمي, يا مهجتي, لماذا تتعجلين في الأمر,
العمر أمامي.
- أيُّ عمرٍ هذا, ها انت رجل لا ينقصك شيء, بنسب
و جاه, و مستقل و لك عملك ونجاحك, لماذا نؤجل؟
- أمي, عزيزتي هذا كله لا يكفي, أتزوج من أي
فتاة كانت؟ هذا لا يمكن.
- عجيبٌ أمركم جيل اليوم! من أحب فتاة يريدُ
الزواج منها يشتكي من الظروف والبحث عن العمل والمال, ومن ملك كل هذا يشتكي بعدم
وجود فتاة أحلامه, قسماً أنكم جيلٌ معقد, تالله لو كان الزمان هذا كزماننا, لتزوجت
وعشت هنياً دون ذلك كله.
ثم غادرت أمي الغرفه وهي تتحسبن, في حين دخول جميله
التي لم تكترث لها أمي حتى بالنظر إليها, وأخذتُ انا أخفي ضحكه واسعه وراء
ابتسامتي, التي أعلم أن في حقيقتها ليست إلا حباً ويقيناً بذلك الأهتمام.
جميلة وهي تجلس جواري : ما بها أمي؟
- لا شيء.
- قل بالله قل.
- تريدُ أن أتزوج يا فضولية.
ضحكت : حقاً, إذاً, فلتتزوج ما المانع؟
تأففت : أخرجي من هنا هيا.
- بالله عليك قل لي الحقيقة.
- أي حقيقة أيتها المجنونة, والله تريد أن
أتزوج وتعرفين كيف تصّر أمكِ على أمر.
- ها, وأنت لماذا لا تتزوج, أسمع, والله أمر
مثير, خاصة أنني بحاجة لحفل أستعد له والى مكوثي بالبيت دون وجودك, وكذلك انا بحاجة
الى غرفتك هذه, سأحوّلها الى غرفة تصاميم, لطالما انتهيت من الثانوية ودخلتُ
الجامعة سأحتاج لمكان كهذا.
- جميلة, للمرة الأخيرة أقل لكِ أخرجي من هنا.
تنفرت جميلة وأخذت تتمتم كعادتها حتى وصلت باب
غرفتي, ثم صمتت و التفتت لي قائله بجدية:
وياسمين؟
أهبتها انتباهي وقلت :
ما بها؟
- أليست هي محبوبتك, لماذا لا تتزوجان.
جميلة لا تعرف شيئاً, تتخذ الأمور بأبسط مما هي
عليه: عزيزتي, الأمر ليس بالبساطة هذه, ياسمين مازالت في الجامعة, وانا بحاجة
للمزيد من الوقت حتى أصبح جاهزاً لأمر كهذا.
- أليست هذه آخر سنه لها؟
- بلا.
- لماذا لا تعرّفني عليها جلال؟
- قريباً.
- وعد؟
- وعد.
- وأمي؟
أوميتُ برأسي متسائلاً, فقالت:
ألن تعرّفها عليها أيضاً؟
آلمتني تلك الكلمة, لم أعرف كيف سأجيب جميلة, لم
أعرف أولاً ماذا سأجيب نفسي, مؤلم هو الواقع, لذلك, نرى الراحة المثلى في الأحلام.
- عزيزتي, فلتذهبي لدراستك هيا.
لم تقل شيء, هي فقط شعرت بما راودني, رغماً عن
تساؤلها, لكنها أرسلت لي ابتسامة ثم غادرت.
*********
انا على حافة الحلم, فليس باستطاعتي أن أطول
السحاب, وليس من طموحي أن أبقى على الأرض.
اتصلتُ بياسمين :
آلو؟
- ياسمين, هذا انا.
- جلال, كيف حالك؟
- بخير, ماذا تفعلين؟
- لا شيء كنتُ أدرس قبل قليل.
- ياسمين, اشتقتُ لكِ, أريدُ أن أراكِ.
- وانا أيضاً جلال, ستأتي للجامعة؟
- لا, دعينا نذهب مكاناً آخر.
- يمكننا الذهاب لأي مكانٍ تريد,سأدبر انا وضع
تأخيري.
- نذهب للحديقة ذاتها؟
- التي كنا نقبِل عليها دوماً في الصيف
السابق بعد انتهاء دوامنا, ونقضي الوقت بشراء المأكولات والتسالي.
ضحكت : اها, ذاتها.
- أيُ يومٍ تريد؟
- نذهب الأحد.
- لا, إختر يوماً آخر اًجلال.
- لماذا, الأحد مناسب جداً.
- إختر يوماً آخراً.
- ياسمين, الأحد ينتهي دوامك الجامعي مبكراً,
ويكون عماد في المكتب فأتمكن من التأخير إن أردت.
بغضب : جلال, لا يمكنني الأحد, قلت لك أختر يوماً
آخراً.
صرخت : لماذا؟ أريد الأحد.!
صمتِّ قليلاً كما تفعلين دائماً حينما أصرخ, ثم
قلتِ بهدوء :
الأحد عطلتنا, وأبي يكن بالبيت, وسنذهب لنصلي
جلال, لنصلي في الكنسية.
انتابني صمت, شعرتُ أنكِ صفعتني, لا أعرف لماذا
شعرتُ بإختلافنا وقتها, لم أطيل الصمت عليكِ, قلت :
حسناً, إختاري أنتِ أي يوم.
قلتِ بلهجة إستفزاز : ما رأيك ان نذهب الجمعة؟
- لماذا اخترتي هذا اليوم؟
- أعجبني جلال.
بغضب : ياسمين, ماذا تقصدين من تصرفك هذا؟
غضبتِ : جلال, أنت تعلم أنني لا أستفزك إلا حينما
تثير جنوني باستفزازك لي.
- ياسمين, انا لم أستفزك, الموضوع كان عفوي
وجاء مصادفة.
باستنكار : حسناً حسناً.
بغضب : ياسمين, لا تتحدثي معي بهذه اللهجة, انا لا
أكذب, قسماً كانت مصادفة.
- جلال, يجب أن أغلق أمي تناديني.
أغلقتُ الهاتف فوراً, كنتُ أعرف أن هذا سيغضبكِ
كثيراً, لكنني غضبتُ أكثر, أنتِ دائماً تستنكرين كل ما أقول, تظنينني أخادعك, وانا
بكل صدق لا أحتمل فعل هذا بك, بكِ أنت ياسمين.
إنها المرة الثانية التي نتشاجر فيها لهذا السبب,
بعد آخر تشاجر لنا في السنة الماضية, ثم لم نلبث لهذا الموضوع مطلقاً.
كانت صديقتكِ هالة ستتزوج, وقد كانت صديقتكِ منذ
الطفولة, لم أكن أحبها قط, لا أدري لماذا, لكنني لم أكن ارتاح لمجيئها ونظراتها,
كنتُ أشعر بخباثتها, وكنتُ على يقين أنها تحاول إكراهكِ بي, وتحاول إبعادكِ عني,
ربما لأنني رجل مسلم, وأنتما مسيحيتان, لا أدري أسبابٌ أخرى, لكن هذا هو الرئيسي.
حبكِ الشديد لي كان أقوى من هالة وغيرها, لقد
استسلمت هالة في نهاية المطاف لأن لا تذكر اسمي أمامك, وأن لا تقول عني أي كلمة,
لا أعلم ما الذي فعلتيه او قلتيه لها, لكنني أعلم أنكِ ذكية وفتاة رائعة.
أصبحت هالة تبتسم لي حينما تراني, وتستأذن الذهاب
لتبقينا وحدنا, كنت أشعر أنها مازالت تراودني ذلك الشعور الحقود, لكنها تُخفي هذا
وتتظاهر العكس أمامك.
أرسلت لي بطاقة دعوة لحضور حفل زفافها معكِ, وكانت
المشكلة بيننا أنني رفضتُ الذهاب, وقد عاندتيني كثيراً بإصراركِ على ذهابي, ربما
لرغبتكِ في اصطحابي, او لتثبيت صورة رسمتيها لي في ذهن هالة, او لتفاخركِ بوجودي
معكِ, لا أدري حقاً سبب إصرارك لكنني رفضتُ بقوة, غضبتي كثيراً واتهمتيني ببعض
الأفكار المعقدة, قلتِ أنني انا من يكره هالة وليس هي, وأنها كانت محقة حينما قالت
لكِ أنني رجل متعصب, وانطوائي, وبعيداً عن كل ما يهمكِ ويخصك.
غضبتُ كثيراً لمحاولتكِ استفزازي, لكلامكِ الذي
استبعدتُ تصديقكِ إياه, قلت :
هل حقاً كانت محقة في نظرك؟
صمتِ قليلاً ولم تجيبي, ربما لتزيدي من توتري, ثم
قلتِ :
إن لم تكن كذلك, إثبت لي هذا بمجيئك اليوم.
صمتّ, ظننتِ أنني ربما أفكر في الأمر, لكنني لست
من يُهزم, قلت:
- ياسمين, سأغلق الهاتف.
صرختِ : جلال, لا تغلق, ستأتي اليوم.
- لا لن آتي.
عاودتِ الصراخ: بلا ستأتي جلال.
- وانا لن آتي, ولن أدخل الكنائس ياسمين.
ثم أغلقتُ الهاتف, لم أشعر بشيء وقتها سوى لذة الإنتصار,
على الأقل بعدما قلته لي, بعد ذلك ما عدنا تشاجرنا لأن الموضوع لم يُفتح من جديد,
لكنني شعرتُ كم كنتُ قاسياً معك, هكذا انا, الغضب يعميني عن كل شيء, كما يعميني
الحب أحياناً.
********
كم من الوقتِ مضى على حبنا؟ حوالي سنتين؟ إنها في
القلبِ أكثر من ذلك بكثير يا ياسمين.
أصبحتِ تعرفيني جيداً مع مرور كل يوم, وتحفظينني
عن قلب, كما تفعلين اليوم لمعاقبتي على شجارنا الأخير بغيابك, لأنكِ تعرفين ألم
الغياب عليّ.
اتصل بكِ دوماً على هاتفكِ الخاص, لكنكِ لا
تجيبين, فكرتُ لماذا لم تغلقيه لترتاحي من إصراري, لكنكِ في الجرح أقسى من ذلك,
تريدين أن أستمر في الإتصال لألا تجيبين, تبحثين عن الطرق التي تعاقبيني فيها دون
أن تضطري لفعل ذلك بمواجهة مباشرة.
تجيبين على الإتصالات الأخرى, اتصل بكِ أحياناً
لأجد الخط مشغول بمكالمة أخرى, أعلم أنكِ تتحدثين مع إحدى صديقاتكِ, لكن الغيرة لا
تترك مجالاً للتفكير بهذه العفوية, أصبحتُ أتخبطُ جنوناً, وأصبحت الأفكار المشوشة
والعشوائية تحيطني بصخب, أستمر في الإتصال مرات عديدة حتى تنتهي مكالمتك, وتبدأين
في عقابي بتجاهلكِ اتصالي, رغماً عن إنتهاء مكالمتكِ السابقة قبل ثواني.
*********
نحن نصل الى ما نريد الوصول له..
أعاقني التفكير ياسمين, وغيابكِ أصبح يخنقني
بأفكار وأشواق حارة لذلك, قررت الوصول لكِ, هممت للجامعة في ساعة فراغكِ من
المحاضرات, وأحضرتُ لكِ باقة من الياسمين, كنتِ تجلسين مع صديقاتك, شعرتُ براحة
لإطمئناني عليكِ, ولرؤيتكِ معهن فحسب.
إنتبهتِ لي عن بعد, لكنكِ تجاهلتني تماماً, وبعد
ثوان, حيث هممت للمجيء عندك, إستأذنتِ وذهبت بعيداً, فاستخدمتُ طريقاً آخر
جانبياً بسرعة قصوى يؤدي بي الى الطريق ذاتها التي تسلكين لأصبح أمامك, نظرتِ لي
متفاجئة, ثم تابعتِ سيرك, فوقفتُ أمامكِ مباشرة, وأصبحتُ أمشي مع سيركِ يميناً
ويساراً وأنتِ تهربين مني, فوقفتِ ونظرتِ لي بحدة, قلتِ :
ماذا تريد؟
- ياسمين, كفاكِ عناداً, ولننسى ما كان.
- تستمر أنتَ في تصرفاتك المجنونة, وتريد أن
أنسى بكل بساطة, ما لتهوّرك؟
- ياسمينتي, انا أيضاً سأنسى ما حدث, أنسيتي
أنني لم أذنب وحدي؟!
- وبكل بساطة ترمي الذنب لي؟
- انا أشاركك إياه ولا أرميه لكِ.
بتأفف : يا الهي كم أنتَ ثرثار, ومجنون!
ضحكت : أعشق الجنون معك, ولكن, هذا ليس جنون.
- بلا,
جنون, وأنت مجنون, ولن تتزن.
متنهداً: آآه, قالوا أن الحب جنون, وأن الغيرة
جنون, وأن الثورة جنون, وأن الإنتماء جنون, فعذراً منهم يا سيدتي أين يكمن العقل إذاً؟
ابتسمتِ بلطف: آهٌ منك يا جلال.
قدمت باقة الياسمين لكِ, ونظرتُ الى عينيكِ حيثُ
تخجلين أن أطيل النظر, فابتسمتِ دون شعور, نظرتِ لي بهدوء, قلت:
ياسمينه, فلتقبلي مني الباقة, ويكن قلبكِ متسامح.
ابتسمتِ, وأخذتِها مني بهدوء قائله: أُحسدُ على
رومنسيتكَ جلال!
ضحكتُ بصوتٍ عالي, ثم أخذتُ انظرُ الى عينيكِ,
واستمريتِ أنتِ في النظر الى الأرض,قلت:
على قدر وساعة بحر اللغة, إلا أنني لا أجد احياناً
كلمات تفي بالتعبير أمام عينيكِ.
********
لاهثه هي الأيام, وراء الزمان الذي يجري بنا الى
مطاف القدر.
أرمي مشقتي اليومية من العمل وانا اضغط على رقمك,
ليجعلني صوتكِ رجلٌ عذب, لا يحمل هماً ولا تعب.
اليوم أنتِ هادئة, مستقلة, تخرجتي من الجامعة,
ورميتِ لي حملاً ثقيلاً, سأحتاجُ وقتاً كافياً لوضع الحمل هذا عني.
ياسمين, لماذا لا تتعرفين على أمي, لماذا لا أبدأ
في خطوة جديدة, انا رجل المهمات الصعبة كما ينعتني الأغلب, لماذا أقف عاجزاً أمام
محاولة كهذه, انا مؤمنٌ أن الجمود أمر قاتل, وأن الجنون هو أكسجين الحب.
إن مشكلتنا ليست بأن أحدهم أراد شيئاً ولم يحدث,
المشكلة أنهم لم يقوموا حتى بالتجربة.
اتصلت بكِ, رغماً عن تأخر الوقت ليلاً, طلبتُ منكِ
ذلك دون مقدمات, وبما لا أتوقع أبداً وافقتِ بعد تفاجئكِ المؤقت.
قلتِ أن هذا أمر لا بد منه, ومدحتني بوصفي رجل
حقيقي, ورجل يحب بصدق, وهذا ما زاد تشبثي بالأمر.
وددتُ أن أطلب منكِ بعضاً من الأمور التي تتصرفين
بها أمام أمي, لكنني أعرف أن هذا سيغضبك ولن تتقبليه, لكنني واثقٌ بكِ, وهذا ما أهبني
السكينة.
أغلقتُ الهاتف, وتوجهت الى أمي فوراً, حماسي أعاق
تفكيراً آخر قد يخطر لي وقتها, كانت جميلة تجلس معها في الغرفة, حدثتُها عنكِ,
وطلبتُ منها أن تتعرف عليكِ غداً في المكان الذي أتفقتُ عليه معكِ, لكن أمي لم تكن
قادرة على استيعاب ذلك بسهولة, قلت حيثُ كانت تنظر لي مستغربة :
ما بكِ أمي, هيا عزيزتي فلتتقبلين الأمر, الفتاة
رائعة.
- منذ متى تعرفها؟
- من مدة, لا أعرف منذ متى بالتحديد.
- آه, قل أنك تعرفها من وقت طويل ولا تريدُ
أن تخبرني.
تحمست جميلة وشاركت الحديث :
أمي, لا تعقدي الأمر, نراها غداً ونتعرف عليها انا
واثقة أنها فتاة لطيفة وجميلة.
قلت : جميلة, قررتِ بمفردك أنكِ ستذهبين معنا؟
أليس كذلك؟
ضحكَت, ثم قالت متوسلة: جلال عزيزي أرجوك.
وغمزتني كناية عن وعد قد عاهدتها إياه مسبقاً
لأعرّفها على ياسمين, فمنعاً لإنتباه أمي قاطعتُ فوراً : حسناً حسناً نصطحب جميلة
معنا.
أمي : قررتُ عني أنني سأذهب؟
- أمي أرجوكِ انا متحمس جداً.
- من تكون هي؟
- اسمها ياسمين, كانت زميلتي في الجامعة.
جميلة : هل هي جميلة؟
ابتسمت, ومهدتُ لمدحها لكن نظرات أمي المنتظرة
جوابي منعتني فقلت بتغير ملامحي : غداً ستريها.. وتحكمين بنفسك.
صمتنا جميعاً, فربّت جميلة على كتف أمي متوسلة
بصمت, وأمام نظراتي المليئة بالحب ابتسمت أمي, ووافقت على الذهاب, قبّلت رأسها
وأقبلت للنوم, حيثُ مكثت الليل كله أحلم بمسيرة هذا اللقاء.
********
كان لي موعدٌ مع الحلم, مدته ثوان, لكنه كان في
المنام.
حينما استيقظت صباح اليوم التالي, صفعتني الأحلام
الى الواقع, مكثت في فراشي مدة, أفكر, تُرى ما الذي فعلته انا الليلة الماضية؟
وكيفَ قررتُ ذلك القرار بهذه السرعة والسذاجة!؟
شعرتُ بندم, لا أعلم لماذا, بقدر تشوقي الحاد ليوم
كهذا قد نخطو فيه خطوة جيدة لمستقبلنا, بقدر شعوري الحالي بالتسرع.
انا رجل أحلم بالإستقلال, لا سيما معكِ حبيبتي,
أريدُ ان أتزوج منكِ, وأن أعيش حياتي معكِ, لا يمكن أن أكون مع غيرك, او أستوعب
وجودكِ مع غيري, نحن خُلقنا لنكون معاً ياسمين.
لكنني متهور أحياناً, مجنون, أتصرف بحماسيّة
كثيراً, لماذا قررتُ فجأة, وفعلتُ ذلك, لماذا وضعتُ نفسي بموضع كهذا, هو اليوم هذا
قادم لا محالة, لكنه أتى بسرعة, لست خائفاً من ما قد يحدث, لكنني على الأقل لستُ
جاهزاً بالفعل لهذا, أريدُ وقتاً أكثر, لأحدّث ياسمين عن أمي وعائلتي, وأحدث أمي
عن ياسمين, نعم, هذا ما كان عليّ أن اقوم به أولاً.
اتصلتُ بكِ, أخبرتكِ فيما لو أن نؤجل الأمر, لكنكِ
رفضت بقوة, قلت أنكِ متحمسة للقاء, وأنكِ ستذهبين بكل الأحوال, قلتُ لكِ أنني
تعجلتُ في الأمر, وعاندتكِ بأنني سأنهي الأمر مع أمي بحجة ما ليتأجل ذلك, لكنكِ
كنتِ معاندة بقوة حادة, قلتِ أنني لو فعلتُ هذا ستتصلين بأمي وتتفقين معها على
لقاء جديد, أدهشتني قوتكِ الصارمة, تأكدتُ من مدى تشوّقكِ لهذا اليوم, والفرج الذي
حلّ عليكِ حينما قررتُ ان أجمعكن معاً, لذلك أنتهت مكالمتنا بانتصاركِ, ربما كانت
غلطتي, ولكن هروبي من هذا اليوم أمر خاطئ, ومماطلة سخيفة.
********
وصلتُ مع أمي وجميلة الى المقهى الذي اتفقنا عليه,
كانت أمي هادئة, وجميلة متشوقة للغاية.
قلت :
أمي, كوني معها لطيفة, هي حساسة جداً.
- هل تظنني أتصرف بغير ذلك, حتى وإن كنتُ
متغاظة منك لكتمك سرّها عني, لكنها الفتاة التي اخترت, آمل أن تكون فعلاً فتاة جيدة
وتستحقك.
ابتسمت وقبلت رأسها, قلت: أعدك, ستجديها أفضل فتاة,
وأكثرهن مناسَبه لي.
استمرت جميلة في النظر يميناً ويساراً وفي أرجاء
المكان تنتظرُ مجيئكِ على الرغم من جهالتها من تكونين, كنت أبتسم كلما نظرتُ إليها,
والى أمي التي أتمنى معرفة ما يدور في بالها وهي صامتة بهذا الشكل, كانت دقائق
قليلة قبل وصولك, شعرت بها أن الوقت بطيء جداً لدرجة قاتلة, جلستُ في الجهة المشرفة
على الباب كما جلست أمي جواري.
حينما دخلتِ المكان, إنتابني شعور مفاجئ, لا أصدق
أنكِ في خطواطكِ اتجاهي وانا مع أمي وأختي, نظراتي لكِ جعلت جميلة تعرف أنكِ أنتِ
ياسمين.
كنتِ ترتدين فستاناً ورديّ اللون, تتوسطه قطعة
قماش تحيط به, وشعركِ كان متجعد لامع, وعيناك كالعادة مكحلتان بسواد قاتم.
دُهشت جميلة بكِ كثيراً وقالت: هاا, كم هي جميلة
يا جلال, يا لحظك الجميل.
أقبلتِ علينا, ولم تجلسي إلا حينما سلّمتِ على أمي
واستأذنتِها بالجلوس, قلتِ بهدوء :
شرفني التعرف إليك خالة أم جلال.
ابتسمت أمي, شعرتُ بارتياحها وإعجابها بكِ,
قالت :
هذا من ذوقك.
قلتِ وقد استدرتِ اتجاه جميلة : كيف أنتِ جميلة؟
جلال يحدثني دائماً عنكِ, لكنكِ أجمل مما وصف.
تحمست جميلة كثيراً, وكانت تنظر لكِ بكل اهتمام,
قالت: آه, أشكرك, أنتِ جميلة أيضاً, جميلة جداً.
ابتسمتِ بلطف, حيثُ تجعلكِ هذه الإبتسامة أروع مما
أنتِ عليه.
لكن أمراً ما جعل جميلة تنظر باتجاه عنقكِ بإختفاء
ضحكتها وملامحها السعيدة, وتستمر في النظر بدهشة وتمعن, إنتبهت أمي لذلك أيضاً ما
أثار فضولها في معرفة السبب, ضغطتُ على يد جميلة لتتصرف بلطف.
ما كنتِ ملمة بما يحدث, أنتِ فقط كنتِ تنظرين الى
ما حولكِ هاربة من نظرات أمي المستمرة.
همّت أمي لتقول شيئاً يجعلكِ تستديرين تماماً اتجاهها
لترى مافي عنقكِ ليجعل جميلة تندهش له, قالت :
ماذا يعمل والدك؟
استدرتِ و رفعتِ رأسكِ وأقبلتِ للإجابة, وأخذتُ
أتابع حركاتك لأعرف ما الذي رأته جميلة أيضاً, شعرتُ بخوف قشعرني, وحينما وجدتُ
سلسلة الصليب في عنقكِ أصابني الجمود, كما أصاب أمي التي تغيرت ملامحها بحدة مفاجئة,
ما جعلكِ تصمتين عن الإجابة وتنظرين الى عينيّ أمي متعجبة من نظراتها.
مكثنا في ذلك لحظات ما أثار غضبي, غمزتُ للنادل
ليقبل علينا, وحينما أتى قلت فوراً :
أمي, ماذا تودين أن تطلبي؟
نظرت لي أمي بجحر غاضب, لكنها كانت نظرة سريعة,
قالت بجفاء :
أعتذر, يجب أن أذهب حالاً فلدي ما أقوم به.
همّت أمي للذهاب وأخذت جميلة معها, لم تتركي
الموقف يمر هكذا, وقفتِ أمام أمي بسرعة, وقلتِ :
تشرفتُ بمعرفتكِ مرة أخرى خالة أم جلال.
ثم نظرتِ الى جميلة وقلتِ : وأنتِ كذلك عزيزتي.
لم تقل أمي شيئاً, هي فقط تابعت سيرها وذهبت,
وعاودتِ أنتِ الجلوس معي, نظرتُ إليك جاحراً, قلتِ :
ما بك تنظر لي هكذا؟ ألا يكفي ما حدث الآن؟
- ما حدث الآن بسببكِ أنتِ, كيف ترتدينه أمامهم؟
ألن تنتظري أن أخبرهم بهذا بمفردي, لماذا تعجلتِ بفعل أمر كهذا دون إخباري, دون
إستشارتي, وثقتُ بكِ, لكنكِ ما كنتِ جديرة بتلك الثقة.
أقبلتِ للدفاع عن نفسك, لكنني قاطعتُكِ
الحديث :
ياسمين, أنتِ دمرتِ كل شيء, فعلتِ خطأً لا يُغفر.
صمتِّ لحظاتٌ قليلة, صمتٌ مختلط, لاذع, منهزم,
وغاضب أيضاً, نظراتكِ وطريقة تنفسك كانت تحمل كل ذلك معاً, ثم قلتِ كما لا تُهزمين
ولا تضعفين :
دمرتُ كل شيء؟! لأنني أرتديتُ الصليب جلال؟
- نعم, لأنكِ إرتديتيه.
- هذا ليس خطأ, وليس عيب.
- لكنكِ إرتديتيه أمام أمي, أمام أمي يا
ياسمين, ولا تحاولي إقناعي أنها صدفة, كنتِ تقصدين ذلك.
- نعم, لن أكذب, كنتُ أقصدها.
أرتفع صوتي وبغضب : لماذا؟ لتتحديني؟ لتجبريني؟
لتثيري غضبي؟ لماذا ياسمين لماذا؟
أقتربتِ مني, وبصوتٍ خافت : لأن هذا هو ديني, وحقيقتي يا جلال.
********
ياسمين حساسة للغاية, قلتُ لها ذات مرة كوني أقوى
من ذلك, فجنحت لي بساط القوة وأضعفتني أمام حبها, لم ألبث لها بنصيحة فتهدي لي
إنجازها, وتالله ما كنتُ إلا أعشقها.
ما الفراق إلا صدمة كهربائية, تفقدنا القدرة على
السيطرة بالنفس, وتؤذي أجسادنا.
اليوم وصلتني رسالة منكِ, بعد فراق وغياب شهر, لم
تكتبي فيها شيء, سوى " آسفة" , لم أرد عليها, كما لم أرد على أيٍّ من
اتصالاتك المتقطعة في الأسبوع السابق.
أعرف قدر الإختلاف الذي بيننا, لكنني لا أكترث له,
ومبادئي وأفكاري تعزز لي ذلك, انا لا أرى أن الإختلاف هذا يأس, او حاجز, بالرغم من
أنه أكبر حاجزٍ ممكن أن يقابلنا, وانا تحديداً أعرف وأؤمن بهذا الواقع.
عنيدة أنتِ ياسمين, تقولين عني ذلك, لكنكِ كذلك
ايضاً, أنتِ لا تحبين أن تُهزمي, وتكابرين على حساب حنينك وعشقك, صحيحٌ أنني كذلك
ايضاً, لكنني على الأقل أفكر بتعقل, ولا أسمح أن أخسرك لأفوز بكبريائي.
حينما أراكِ ملاكاً ومعصومتاً عن الخطأ ليس
بالضرورة أنكِ كذلك, بل لأنني أحبك.
حساسة لكنكِ قاسية, تعاقبين كما لو أنكِ تنتقمين,
تستغلين ضعفي و حبي لذلك, و أعاقبكِ انا بقساوتي عليكِ وجرحي إياكِ أحياناً, متشابهين
نحن في كثيرٍ من الأمور, فبؤساً على اختلافٍ كاد يفرقنا, بسببكِ أنتِ.!
كيف لكِ أن تكوني قاسية الى هذا الحد, وتهجُريني
كل هذه المدة, لم أكن مخطأً معكِ لتكتفي برسالة بكلمة عابرة, لا تحمل أي مشاعر
حتى, واتصالات متقطعة لبضع أيام.
لا أرد عليكِ, فتتجاهليني!؟ وتنسي؟! كيف لكِ أن
تتذكريني برسالة عابرة كهذه, كيف لكِ أن تعيشي أيامكِ دون محادثتي, دون حبي واهتمامي,
كيف لكِ أن تكوني بدوني, بدون جلال, الرجل الذي لن تجدي من يحبكِ كما أحَبَكِ, الرجلُ
الذي حتماً خُلقتي من ضِلعه.
في غرفتي المظلمة, المستنيرة بضوء القمر, الأفكار
كانت تحيطني بقساوة الإحتمالات وسوء الظنون, يقابلني ضميري الحي بكِ ليهدّأ من
انفعالاتي, ويرسمكِ في مخيلتي متعذبة بدوني, مراقِبة لي, منتظرتيني في الجامعة لأن
آتي, مختنقة لا تجيدين كلاماً سوى الإعتذار, مغلقة أبواب حديثٍ أطول لألا يسوء
الحال بالعناد, بات ظني يرمي بي في كل جهة, حتى هربت من كل شيء الى النوم.
********
حبي لكِ أصبح كموت سريري, كأنه ميت, لكن الروح فيه.
استيقطتُ صباح اليوم التالي بعد نومٍ متعمق على
رسالة منكِ, وجدتها مُرسَلة قبل وقت من استيقاظي, أول فكرة راودتني وانا أفتح بها
لأقرأها أنكِ لم تنامي الليلة الماضية وأنتِ تفكرين بي, حينما فتحتها لم يكن هنالك
سطورٌ عدة, هو فقط سطرٌ مختصر, كتبتِ فيه :
جلال, أنا أختنق بدونك .. اشتقت لك.
قرأتها عدة مرات, وكأنما في كل مرة أتخيلكِ وأنتِ
تكتبينها, كيف كانت حالتكِ وقتها؟!
لم تحمل كلاماً كثيراً للوهلة الأولى, لكن عبارة بسيطة
حملت ما لا تعبر عنه جمل كثيرة, شعرتُ كم انا محتاجٌ لكِ, وتسائلتُ هل حقاً مضيتُ
وقتاً طويلاً بدونك, بدون رسالاتكِ الحنونة, وبدون أشجاني الحارة لكِ؟!
خطر لي لو ان أعاقبكِ بعدم ردي, لكنني لم أحتمل,
كلما تذكرتُ ما كتبتِ شعرتُ بمدى حاجتي لكِ, وبمدى الراحة التي شعرتُ بها, وددتُ
أن أمزق كل صفحة سوداء تريد أن تغطي قلبي ليقسى أكثر, وتحدّياً لهذه القسوة أرسلتُ
لكِ رسالة كتبتُ فيها :
ياسمين, اشتقتُ لكِ أيضاً, بل أكثر, أحبك.
********
كالطفلُ الرضيع انا, لا أشبعُ من حبك.
أينما بحثتُ عنكِ..أنتِ في قلبي مهما أضعتك.
إتفقتُ أن أراكِ اليوم, وخلال وجودي في غرفتي
إستعداداً للخروج دخلت أمي.
- ستخرج؟
- نعم أمي, هل تريدين مني شيء؟
- لا.
وبعد صمت تابعَت: أين ستذهب؟
لا أحب الكذبَ عليها, لكنني مضطر لذلك الآن, أجبت:
- سألتقي بأصدقائي.
- جلال, هل حقاً تريدُ تلك الفتاة؟
نظرتُ إليها بتعجب, تُرى ما الذي جعل أمي تتذكر هذا
الأمر, صمتّ, لم أعرف حقاً ماذا سأجيبها أمام تلك النظرات التي تقدحني بها!
قالت: لماذا لا تجيب؟
- أمي, ما هو سبب السؤال هذا؟ لماذا تذكرتيها
الآن؟
- لا تريد الإجابة, هذا يعني أنكَ مازلت معها.
- ولماذا أتركها؟
- ومازلت تتسائل!؟
- أمي, انا أحبها ولن أتزوج من فتاة أخرى,
أنظري الى الأمور كما أنظر لها انا لتتمكني من فهمي, ومن فهم ياسمين أيضاً.
- ماذا تريدني أن أفهم؟ تريد أن تتزوج من مسيحية, هي
ليست من ديننا وليست من تربيتنا, لم أرتح لها.
- هي ليست شذوذ أمي, هي مسيحية فقط, وهذا لا
يهمني, انا أحبها كما هي, وأكرر أنني لن أتزوج من غيرها, إن استمريتي في الرفض فلن
أعاندك لكنني لن أتزوج من أخرى.
- أنت تعاندني بكلامك هذا, ألم يبقى هناك
فتيات سواها, لماذا لا تريدُ أن أختار لك فتاة تعيش العمر كله معها, وتكون رفيقتكُ
الى الأبد, دون أن تلجأ لفتاة ليست من دينك, قد تتخلى عنك, لا نعرف ما بيئتها ولا
تربيتها!
- أمي, هل تريدين أن تختاري لي كما أخترتي
لأيمن؟ ثم أسافر ولا أعود, أم أتزوج من أخرى وأظلمها معي حتى يبات زواجاً فاشلاً؟
ياسمين هي التي ستبقى معي مدى الحياة, وصدقيني أنكِ ستشهدين لي ذلك, لن
تجدي فتاة بكل العالم تهبني حباً يعادل حب ياسمين لي.
لم تقل شيء, هي فقط غادرت الغرفة بغضب, هل كان
استسلاماً او رغبة في إنهاء المحاولات لم أعلم, لكنني لم أكد أصدق أنني أنهيت هذا
الحديث مع أمي.
حينما قابلتُكِ لم أكن مستقر الحال, كان حديثي مع
أمي وشعوري بالقسوة عليها ينتابني بألم داخلي, كنتِ تتحدثين و تضحكين, ثم صمتِّ
فجأة, وأخذتِ تتأملينني حتى نظرتُ لكِ متعجباً, قلتِ:
ما بك جلال؟
- لا شيء عزيزتي.
- لكنكَ على غير عادتك, قل لي ما بك؟
- لا أعرف ماذا أقول.
- قل كل شيء تشعر به.
- ياسمين.. هل تحلمين بالزواج مني؟
ابتسمتِ : بالتأكيد, أنت تعلم.
- هل ستبقين معي حتى الموت؟
- يا لهذا الموت الذي تخشاه دوماً.
صمتُّ بانتظار إجابة أخرى, وصمتِّ قليلاً, ثم تابعتِ:
حسناً, نعم سأبقى معك حتى الموت, وحتى آخر أنفاسي
أيضاً.
صمتنا, صمتٌ لا كلاماً خفياً فيه, أشياءٌ كثيرة
دارت في رأسي, أشياءٌ لم تكد تخطر لكِ حتى, إنني فقط نظرتُ لكِ طويلاً, ثم قلتُ
دون تردد :
هل تقبلين بالزواج مني؟
توقعتُ صمتاً وصدمة منكِ, لكنكِ فاجئتيني بالضحك
كما توقعتِ أنني أمازحك.
تابعت: ياسمين, إنني في أكثر وقت جاد في حياتي, هل
تقبلين الزواج مني؟
- جلال! ما بك! ما الذي يخطرُ في ذهنك الآن؟
- يخطر في ذهني أن نصل الى نهاية المطاف,
ونتزوج, تُرى ما الذي تنتظريه من حبنا بعد كل هذا الوقت, وما الذي يجدر بي أن أفكر
به الآن؟ أأنتظر أن أراكِ لغيري مجبرة على ذلك؟ ياسمين حان وقت أن نستقر في بيتٍ
واحد, ها انا جاهزٌ وها أنتِ تخرجتِ, ذلك الجدار الضخم أثار ضجيجي, و ها انا أحمل
مطرقتي لأهدُمه, أنتِ فقط أعطني رخصة القيام بذلك وقولي أنكِ موافقة.
- تالله ما أنت إلا بمجنون, يا جلال أيُ قرار
تتحدث عنه هذا, ماذا سأقول لأبي؟ ماذا ستقول لأهلك, كيف ستتقدمُ لي وأنت رجل مسلم
في بيتنا المسيحي؟
- لا داعي لكِ بأهلي لن يقفوا أمامنا,
سأتقدمُ لكِ ومهما يحدث سأحارب من أجلك.
- جلال, لا يمكن, أن تتزوج فتاة مسيحية من
رجل مسلم, هذه خطيئة و أمر لا يُغفر.
- ما الحل إذاً؟
- لا أعلم.
- اذاً, فعلى أي أساس كنتِ تريدين الزواج
مني؟ وكنتِ توعديني بالزواج والمستقبل المشترك دوماً؟
صمتِّ, كأنما مترددة في الكلام, قلت: أجيبيني,
فقلتِ بعد تارة :
على أساس العدل.
ثم تابعتِ بعد صمت متردد : العدل الذي يقول أننا
نحب بعضنا, ولا يستحق هذا الحب أن نفترق, انا لا يهمني أن تكون مسلم أو أن تكون
مسيحي, حينما أحببتك, وحينما ألتقينا أول مرة لم أهتم لمعرفة هل أنت من ديني أم
لا, يا جلال أنت تخافُ الموتَ كثيراً, ولكن, كم من الأشياء التي ترفض أن تموت, وكم
من الأشياء التي تموت في أي وقت وكل وقت, فماذا لو كان حبنا من الأشياء التي ترفض
أن تموت, انا أرفض أن يموت, أريد أن أحب الحياة, أحب الحياة حتى أخشى الموت مثلك,
لكنني لم أحب الحياة إلا معكَ وحدك, وحدك يا جلال.
- ياسمين, هل يعني ذلك أنكِ مستعدة للزواج
مني؟
- نعم, أحلم بهذا اليوم, لكنني أخشى ذلك.
- من ماذا تخشين؟
- من أبي.
- ما الذي يمكن أن يقوم بفعله؟ إن تزوجنا فلن
يتمكن من فعل أي شيء طالما أصبحتي زوجتي.
- لا أعلم جلال, لا أعلم ما الذي يمكن أن
يحدث, إنني فقط أعلم بأنني أحبك, أحبك أكثر من أيِّ شخصٍ آخر.
شعرتُ بأنكِ لا تستثنين أحداً من كلامك, لا أباكِ
وربما لا أحدٌ من عائلتكِ كلها, إنها المرة الأولى التي أراكِ فيها بهذا الضعف,
أشعر أننا اليوم في أنضجِ حالاتنا, تُرى ما الذي يمكن أن يحدث فعلاً لوالدِ
ياسمين, وما الذي يمكن أن يقومُ بفعله لو فعلنا ذلك؟
قلتُ لأهلي ما قررته مع ياسمين, وكأمر متوقع غضبت
أمي كثيراً, وقالت أنكِ فتاة غير صالحة لأنكِ ستتزوجيني رغماً عن أهلك, هي لا
تعرفُ شيء عنكِ, وعن ما تفكرين به, حتى أبي لم يستوعب الأمر كثيراً لكنه لم يكن
حاداً كأمي, وبعد طول محاولات من العناد والتهديد دامت طوال أيام, باتت أمي في
إقتناع متظاهر غير صريح ولا راضي.
اتصلتِ بي لتقولي لي أنكِ تجرأتي
وأخبرتِ أمكِ, لكنكِ بتِ بشجار عنيف معها, قلتِ بكل إصرار أن أمكِ أصبحت تعلم
بتقدمي لكِ, شعرتُ بمدى القوة التي خرجت من جسدكِ النحيل يا ياسمين, وأخبرتني أن
أمك قد أخبرَت أبيكِ بهذا الشأن بعد تردد وخوف كبير, تحت الضغط الذي وقعت به منكِ
لتخبره عني, لم تخبريني ما الذي جرى بعد ذلك, فقط اتصلتِ بي بساعة متأخرة وكنتِ
تبكين, قلتِ أن الموضوع لم يصل لأي حل, و أنه لم يتم أي نقاش حتى, قلتِ أن النقاش
في موضوع كهذا لا يجوز في عرفكم, ومحاولتكِ في الإقناع هي محاولة للإقلاع عن هذا
الدين ليس أكثر بالنسبة لكم, او حتى بالنسبة للمسيحيين جمعاء.
حينما اتصلتِ بي وأنتِ تبكين, قلتِ وأنتِ تخفقين
أن أبيكِ قد صفعكِ, ولم تتجرأي في بدأ أي حوار يساعد موقفكِ أمامه, قلتِ أنكِ كنت
مخطئة حينما همّيتِ للحديث مع أمكِ كما كنتُ أريد منكِ أن تفعلي, لأن هذا أمر غير
قابل للنقاش مع أي رجل مسيحي متعصب, فكيف مع رجل متعصب وغير متساهل كأبيكِ.
لم أتمالك نفسي, هل حقاً يصفعكِ أبيكِ على وجهك
وأنتِ على ذمتي!
أنتِ فعلاً على ذمتي, صحيحٌ أننا لم نتزوج بعد,
لكنكِ لستِ إلا كذلك لي, على الأقل لستِ بالمعنى المطابق, وإنما على ذمة ضميري
وحبي وعشقي.
شعرتُ وكأنما أعيش عجزاً مكبوتاً يخنقني, كيف
تُصفعين؟ وإن كان من والدكِ, هذا لا يُبرر لي أن أغفر, كيف يجرُؤ على إيذاء الأنوثة
التي تتشعشع منكِ, ويكن بهذه القسوة!
لا يهمني من يكون, ولا حتى من أكون بالنسبة له.
يهمني أنكِ لي, وما هو لي فهو تحت وطئة مسؤوليتي.
********
غداً, يوم ماطرٌ وباردٌ جداً, إنه الأول من يناير,
إنها ليلة رأس السنة, او هي ليلة إحتفالكم الأكبر, أنتم المسيحيون.
ربما مناسبة يومَ غد لن تكونَ لكِ ككل سنة, لا
أعلم بالتدقيق كيف أمست علاقتكِ مع والدكِ بعد ذلك اليوم, ربما مضى وقتاً كافياً
على ما حدث لتتوطد العلاقة من جديد, او لاسيما أنكِ أظهرتِ نسيانكِ الموضوع
وتغاطيكِ عنه.
لم أكلمكِ منذ مدة ليست طويلة, لكنني أشتاقُ لكِ
دوماً, خاصة وأنه لم يعد هناك مكاناً لأراكِ فيه بعد تخرجكِ من الجامعة, أشعر أنني
أشتاقُ لكِ حد السماء, وأنني في حاجة ماسة لاستنشاقِ عطرك, ولرؤية عيناك, للنظر
طويلاً لجمالكِ الفتان.
ما كان عندي حلٌ آخر, وما كنتُ رجلاً عاقلاً في
الحب, لا مستحيل يقف أمامي, ولا عقبة ترمي أحمالها عندي, انا أعبر طريق الحب ولا أنظر
حولي, أعبره كالكفيف.
مساء يوم الأحد, يوم رأس السنة, كان بيتكِ مليءٌ
بالناس, أصدقاء والدك, وجيران, ومعارف, وكلهم مناصب عليا من ذي الشخصيات المملة
الغير مريحة كما كنتِ تنعتينهم لي, وبالتأكيد لا يدخل بيتكِ إلا المسيحيين.
دُقَّ باب بيتك, وهممتي لفتح الباب, ربما لم
تتوقعي مطلقاً ما وجدته, نظرتِ باندهاش يتراوح بين الخوف والفرح الشديد, حينما
وجدتِ جميلة أمامك.!
أخذتِ تنظرين لها دون النطق بكلمة واحدة, تعقدت
الكلمات في فوهكِ وكل الأسئلة تدور في رأسك, قالت جميلة ولم تطيل الإنتظار
على الباب:
كيف حالكِ ياسمين؟
جاملتِها بابتسامة, ثم قلتِ بصوت مرتجف:
بخير, تفضلي عزيزتي.
لم تدخل جميلة, هي فقط أخذت تنظر الى أمكِ التي
كانت قادمة باتجاهكما, في حين التفتِّ أنتِ لها بخوف وارتجاف, قالت أمكِ باستغراب:
أهلاً.
جميلة: أهلاً بكِ خالة, انا صديقة ياسمين.
- ها, أهلاً عزيزتي, فلتتفضلي.
- شكراً لكِ, لكنني على عجلة من أمري, إن أهلي
ينتظرونني بالأسفل داخل السيارة.
قلتِ وقد شعرتِ بتشجع لتكملة الأكذوبة : عزيزتي
فلتتفضلوا جميعكم, سنحتفل جميعنا هنا.
رحبت أمكِ بذلك, مكررة عزيمتها على الدخول, لكن
جميلة تابعت رفضها :
أشكركم, لكن يجب أن أذهب فنحن نحتفل مع العائلة
جميعها بالعادة, إنني فقط أردتُ تهنئة ياسمين و هبتها هذه الباقة المزينة تغلفتها
بالأجراسِ والشرائط الحمراء.
ياسمين: ها, عزيزتي أشكرك, إنها بالفعل أجمل التهاني
التي وصلتني.
أمكِ: بالفعل, شكراً لكِ يا ابنتي, هذا من ذوقك.
جميلة: لا داع للشكر, أتمنى لكِ سنة جميلة.
غادرت جميلة وتركتكِ تحلقين في السماء لفرحتكِ
التي خلفتها لكِ تلك الباقة البسيطة, أغلقتِ الباب, سألتكِ أمكِ فوراً:
من تكن هي؟
- إنها صديقتي أمي, هي مقربة جداً لي.
- لكنني أراها اليوم للمرة الأولى, ولم يسبق
أن أخبرتني عنها شيء.
- حقاً, ولكنني متأكدة أنني أخبرتك, ربما
نسيتيها.
- ربما! صديقاتكِ كُثُر.
ثم نظرت لكِ نظرة جحر وقالت: هي مسيحية أليس كذلك؟
نظرتِ الى أمكِ في حيرة, لكنكِ لم تطيلي الأمر,
قلتي بثقة:
نعم, ألم تسمعيها تقول أنها تحتفل مع العائلة جميعها.
- حسناً, فلتضعي هذه الباقة وتأتي معي لنحضّر
الضيافة.
- سأضعها في غرفتي وآتي.
دخلتِ لغرفتكِ بسرعة, وسرعان ما أخذتي تبحثين عن
شيء ما داخل تلك الباقة, إنكِ تثقين أنها تحمل شيئاً آخر غير الورود, كما تثقين
أنني المرسل المجنون.
وكما توقعتي, كانت تلك الباقة تحمل في قعرها عُلبة
صغيرة, ورسالة معطرة, كان هدفكِ الأول فتحَ العلبة, وحينما وجدتي فيها خاتماً
فضياً لامع الحجر, هممتِ فوراً لفتح الرسالة بكل تشوّق, وبدأتِ تقرأين بقلبٍ يخفق:
" عزيزتي ياسمين..:
أظنكِ أصبحتِ قدري, ليس لي الخروجُ عنكِ..
نحن لا ننظرُ الى النصف المليء من الكوب, نحن ننظر
الى النصف الفارغ, ولا نفكر كيف يمكن أن نستغل ذلك الملئ, او أن نستفيد منه, بل
نفكر كيف سنملئ النصف الفارغ ليطفح, ليطفح لا ليمتلئ!
وحياتي هي الكوب, لذلك, لن أضيّع كثيراً من الوقت
لأطمح بملئه, بل سأبدأ في الاستفادة من ذلك المُلئ..
أنتِ لي ياسمين, وأنتِ ملءُ كوبي, وانا أريد
الزواج منكِ مهما كلفني ذلك, لا أحد يمكنه الوقوفُ أمامي, ولا أحد يمكنه منعي
عنكِ, فقسماً لن أسمح لرجلٍ أن يقترب منكِ في حضرة وجودي, وإني لموجودٌ طالما
مازلتُ حياً. "
طويتِ الرسالة, وذهبتِ في تأمل, " الى اين
تأخذني جلال بكلماتك هذه؟ "
مسحتِ دمعتيكِ, و وضعتِ الرسالة والخاتم تحت
وسادتك, ثم هميتِ للخروج, تاركه عقلُكِ وقلبكِ في تلك الغرفة, باصطحابِ رائحة
الورود.
********
في نهاية الإحتفال الصغير, ورحيل ضيوفكم, وجلوسكم
جميعاً بالصالة, أخذت أمكِ تتسائل عن جميلة, شعورٌ ما جعلها تستمر في الشكِ فيها,
كما تشكُ دوماً في كل جديد في حياتك.
قلتِ بعد استنكارها : أمي, ما بكِ والفتاة؟ إنها
صديقتي فحسب.
لفت الحديثُ انتباه أبيك, حتى بدأ يتسائل عنها,
فأجابته أمكِ أنها أتت خلال الإحتفال وقدّمت لكِ باقة ورود حمراء, بغلاف مزيّن
وملفت.
قال: لقد انتبهتُ لمجيء أحدهم, لكن من تكون تلك؟
أصابكِ الشعور بالملل, إستعداداً لحوار طويل قد
يؤدي الى شجار ككل مرة, قلتِ : هي صديقتي, تدعى جميلة.
- هل لها بالعادة أن تحضر لكِ باقة كهذه؟ وهل
هذه هدية تناسب رأس السنة؟ وما الذي يمنعها عن الدخول والإحتفال معك مادامت
صديقتك؟!
- أبي, توطدت علاقتي معها حديثاً, وعائلتها
لا تسمح لها بالسهر ليلاً مع غُرب حتى وإن كنتُ صديقتها المفضلة, فربما وجدت أن
باقة مزينة ستكون هدية جميلة لي في ليلة كهذه.
- هذا غير مقنع!
إختنقتِ, والدكِ يعقد الأمور دائماً, ولا يثق بأيٍ
كان, فرحتكِ المتناهية بتلك الباقة وبالرسالة, باتت سضيع في حواركِ مع أبيك.
تابعت أمك: فلتَدعيها لعزيمة غذاء, نتعرفُ عليها
أكثر.
- أمي هي لا تخرج من البيت لزيارة أيٍّ كان,
قالت لكِ حينما أتت اليوم أن عائلتها كانت في السيارة أسفل البيت تنتظرها.
صمتوا, تابعتِ بعد حين : فلتنسوها, لماذا تهتمون لأمرها
كثيراً, المهم أنها صديقة جيدة وانا أحبها.
وبعد صمتكِ لثوان: وهي مسيحية أيضاً.
أبيك: ما اسم والدها؟ وعائلتها؟
توترتِ, وبدأتِ ترجفين, قلتِ : لماذا تسأل ؟
- أريد أن أعرف من تكون ومن هي عائلتها,
لأعرف إن كانت تستحق أن تكون صديقتك أم لا.
- ألا يكفي أن أكن أعرف عنها انا وحدي, وأثق
بها.
أمك : لا, لا يكفي, أنتِ لن تعرفي مصلحتكِ أكثر
منا.
نظر لكِ والدك, إنها النظرة المرعبة, التي تستمر
في النظر الى عيناكِ تبحثُ عن الحقيقة وكشفِ الكذب فيها, نظراته مخيفة وعنيفة جداً.
قلتِ بعد تارة من انتظارهم: حسناً, لن أحدثها مرة
أخرى, إنتهى.
أبيكِ : لماذا؟ أليست صديقتك المفضلة.
- لكنها لا تعجبكم كما أرى, فلتنسوا الموضوع هذا,
انا بكل الأحوال لا أراها إلا في الشهر مرة.
أبيكِ : لكنني أريد ما طلبته منكِ, والآن.
- أبي, أرجوك.
وقف من مقعده, ووضع يداه متشابكتين خلف ظهره, وبدأ
يمشي اتجاهكِ في خطوات بطيئة, حتى جعلكِ الخوف تقفين فجأة, وتوجهين رأسكِ للأرض.
قال وهو مايزال ينظرُ إليكِ, موجهاً الكلمات
لأختكِ الصغرى: أدخلي لغرفتك.
ثم تابع لكِ: لماذا لا تريدين الإعتراف بحقيقة تلك
الفتاة؟
لم تتوقعي أن الموضوع سيأخذ حجمه هذا, لكنكِ
تورطتِ في وضعٍ لم تجيدي التخطيط له للنفاذِ منه, خاصة أنه أمام والدكِ الأعظم.
لم تقولي شيء, أمام صمتُ والدكِ المنتظر جوابك,
دون ملل, مكثتما وقتاً في صمت, ثم رفعتِ رأسكِ ببطئ, قلتِ بصوت خافت :
لا شيءَ أبي.
- إذاً؟
- إنها فقط لا تنسابكم كصديقة لي, لذلك رفضت
الإجابة.
بدأ يرفع صوته بغضب: أنتِ لا تملكين حق الرفض
والقبول, انا فقط في هذا البيت من يوافق ويرفض, أنتِ تنفذين الأمور بصمت.
وبعد تارة من صمت, تابع: لماذا لا تناسبنا؟
- هي مسلمة.
في حين غفلة, صفعكِ ألماً قوياً جعلكِ تتخبطين بين
اختناق البكاء والصمود في الموقف.
استمريتِ في الصمت, قال:
لماذا كذبتي إذاً؟
- لأنها لن تعجبكم.
- وبما أنكِ تعرفين ذلك, لماذا ترافقينها؟
- لأنها أفضل فتاة تعرفت عليها, وأقربهن لي.
- لكنها ليست من دينك, وليست من مستواكِ
لتكون صديقتكِ المقربة.
صمتِ, ولم تجيبي, أنتِ فقط تستمرين في خنق الدموع داخلك
والنظر الى الأرض.
لم تتجرأ أمكِ على الفوه بكلمة, هي مستسلمة له
ولعنصريته ومحكوميته, ذلك الشعور الذي ترفضيه ولكنكِ تخشين فعل شيء غيره.
قال: من أي عائلة هي؟
- وما الذي يهم في ذلك, انا سأقطع علاقتي معها
بكل الأحول.
- يهمني, وإن كذبتي فستكون عاقبتكِ كبيرة,
وكوني على ثقة أنني سأعرف الحقيقة إن كذبتِ.
- من عائلة رضوان.
صمت أبيكِ, ذهبَ في تفكير بعيد, ثم أمسك بذراعكِ
وشدَّ عليها قائلاً :
أليست هذه عائلة ذلك الشاب؟
أجبتِ بارتجاف : أيُ شاب؟
- الذي حدثتني أمكِ عنه, المسلم الذي كان
يريد الزواج منكِ.
ارتفع صوتك: لا, لا أبي!
- أتظنينني لم أسأل عنه, من يكون ومن هي
عائلته, وإن كنتُ رافضاً وممانعاً, هذا لا يمنعني عن معرفة كل التفاصيل التي تهمني
انا.
لم تحتبس الدموع داخلكِ أكثر, وكأنها كانت
تشدُ جفنيكِ كما يشدُ أبيكِ ذراعكِ لتنفجر, أخذت تدمعين دون صوت, وترجفين.
قلتِ في أختناق: لا أعلم, لا أعلم.
أفلت ذراعك, وأخذ نفساً طويلاً, ثم قال:
حسناً, حينما تقدم ذلك الشاب للزواج منكِ, قالت لي
أمكِ أنك أخبرتها بأنك تعرفيه بالاسم والشكل فقط, ولا تعارف بينكما, وانا سأكن
متعاطفاً وأصدق ذلك, لأنني إن لم اصدقه, فهذا سيكون بؤساً عليكِ.
وأخذ يقدحكِ بنظرات تكذيب, حتى أنكِ بدأتِ في
الشكِ بنهاية حوار مرعبة, لأن أبيكِ لا يأخذ الأمور بنهاية مسالمة, خاصة في ظل
نظارته المكذبة هذه.
ثم تابع : يوم الأحد القادم, سيكن يومَ عقد قرانك,
في الإحتفال تقدم لكِ شاب من عائلة غنية وراقية, اليوم طلبكِ أباه مني, كنتُ سآخذ
وقتي في التفكير أكثر, لكنني قررت الآن أن أوافق عليه.
أمكِ متحمسة: من يكون؟
- هو ابن السيد علي بيك, شاب رائع, لا ينقصه
شيء.
قلتِ بصوت مرتجف خانق, بنظرات مندهشة مليئة
بالدموع:
أبي, لكن ...
قاطعكِ القول: لا كلام بعد كلامي, ولا قرار لكِ,
انا سأوافق وانتهى الأمر.
غادر الغرفة وهو يقول بصوتٍ منخفض مسموع :
حان أن أنقي غبار ما أدخلتيه الى بيتنا المقدس.
هممتِ الى أمكِ وأنتِ تبكين وترجفين, أمسكتِ بيدها
وقلتِ : أمي, أرجوكِ, لا أريد الزواج من هذا الرجل, أمي أرجوكِ, حاولي منع هذا, لن
أتزوج من جلال, ولن أفكر فيه أعدك لكن لا تسمحي بالزواج هذا أن يتم ارجوكِ.
- أصمتي, وهل لكِ أن تفتحي فمكِ للنطق بكلمة
واحدة بعد كل ما فعلتِ, أنتِ فتاة عاق, ولا يحق لكِ النطق او الرفض, اهدئي وكوني
مسالمة, هذا شاب جيد ومحترم, أحمدي الرب أن وافق والدك وسينتهي الأمر.
لم تلبث أمكِ لفعل شيء أكثر, هي أفلتت يدكِ منها
وغادرت الغرفة أيضاً, تخافُ كثيراً من أبيك, وسلبية الى حد يجعلها تنفذ أوامره دون
تفكير او محاولة للنقاش في الأمر, ربما أبيكِ فرض عليها هذا من البداية, هما أيضاً
تزوجا بطريقة تقليدية, من عائلتانِ مسيحيتان متشددتان, الأهل فيهما متعصبين,
وسلبيين.
وقعتِ أرضاً على ركبتيكِ, غارقة في بكاء خانق
صامت, إنتِ تخشين البكاء الصارخ بوجود أبيكِ, حتى أنه بالعادة حينما يغادر البيت,
تبدأين في هذا البكاء لتفريغ كل شيء, وتصرخ أمكِ لإسكاتكِ فحسب.
أخذتِ تفكرين, لكنكِ عجزتِ بتلك اللحظة عن أي
تفكير, وبقيت على حالكِ غارقة, متأملة وجودي أمامك أمسح دمعتيكِ, إنكِ فقط قبل إنتهاء
العزومة بقليل, كنتِ تقرأين رسالتي أقول فيها أنني لن اسمح لرجلٍ لآخر أن يقترب
منكِ, إلا في موتي.
********
لماذا يضعون الدين بيننا, ويحكمون أنه العنصر
الفارق, حتى أن العناصر تتحد مع أخرى لتصل الى الإستقرار, فلماذا لا نتحد نحن؟!
اتصلتِ بي بعد يومين, بعد اتصالات طويلة منكِ على
هاتف بيتي لم أكن موجوداً وقتها, ولم تخبرني أمي باتصالاتكِ قصداً, حتى أخبرتني
جميلة أنها أجابتكِ صباح اليوم وطلبت مني الإتصال بكِ باسرع وقت, قالت أن حالتكِ
كانت غير طبيعية وكنتِ مسرعة وتسائلتِ عن عدم عودتي للإتصال بكِ بعد مكالماتكِ
المتكررة طيلة يومين.
تعجبت من عدم استخدامكِ لهاتفكِ المتنقل للإتصال
بي على هاتفي الخاص, وبدأتُ في الخوف والقلق الشديد, لكنني لم أتعجب من عدم إخبار
أمي لي باتصالاتك.
اتصلتُ بكِ لكن أمكِ من أجاب, فاغلقت الخط فوراً,
وبعد ساعة اتصلتِ بي, أجبتُ مسرعاً دون تركك تنتظرين:
ياسمين؟
بصوت منخفض: جلال, أين أنت اتصلتُ بك طويلاً؟
- سامحيني عزيزتي, أخبركِ لاحقاً, ما الذي
حدث معك؟
- القصة طويلة, كتبتُ لك كل شيء برسالة لا
أعرف كيف سأوصلها لك.
- لماذا لا تتحدثين الآن؟
- لا يمكنني الحديث طويلاً هنا.
- أين هاتفك المتنقل؟
- أخذه أبي مني, ومنعني الخروج من البيت, هو
ليس في المنزل, أنه يعود بوقت متأخر, لذلك أتصل بك كلما انشغلت أمي بشيء.
- حسناً, ضعي الرسالة أمام باب منزلك وانا
سأحضرها, إنتظري نصف ساعة ثم ضعيها.
- حسناً, سأغلق الآن.
********
رسالتكِ حملت تفاصيل كل ما حدث, مضيفة مشاعركِ
ومخاوفكِ الكبيرة من كل ذلك, لم يكن هناك شعوراً يراودني سوى الثوران, شعرتُ أنني
محتاجاً لصراخ يعم الكون.
ما كان هنالك خياراً آخر, وما تُرِك لنا حل, لقد
أوصدت كل الأبواب أمامي, ووصل الحال بنا الى مطاف لا يمكن الصمود عنده, أنتِ الآن
على وشك الزواج من آخر.!
اتصلتُ بكِ, وحينما أجبتني:
ياسمين, هل يمكننا أن نتحدث؟
- ليس طويلاً, أمي في الطابق العلوي الآن, هل
أخذت الرسالة؟
- نعم, في الحقيقة لا شيء عندي لقوله, الشيء
الوحيد هو أننا سنتزوج ياسمين.
- ماذا تقول؟ كيف؟
- لا تتسائلي كثيراً, نتزوج ككل الناس.
- جلال! كيف سنتزوج؟ أجننت, أمامي اسبوع
ويُعقَد قراني, بماذا تفكر؟
- أنتِ تعرفين بماذا افكر.
- تريدني أن أهرب جلال؟
- إذاً, ها أنتِ تفهمينني.
- مجنونٌ أنت, تريدني أن أهرب من أهلي
لنتزوج, تريد أن أُقتَل!
- من يتجرأ على الإقتراب منكِ في وجودي,
ياسمين, إن تزوجتي من ذلك الشاب, فسآتي لحفلك حاملاً جثته هدية لك.
تابعتُ بعد صمت: لن أعيشَ يوماً بدونكِ بعد الآن, هيا
ياسمين.
- لستُ مغامرة لأفعلها, ولستُ عاق لهذه الدرجة,
مستحيل جلال.
بغضب: ولستُ مجنوناً حتى أترككِ لغيري, من أجل من
تضحين بي, تضحين بي انا جلال الذي يعشقكِ أكثر من نفسه, من أجل والدكِ الذي لم يهبكِ
الحب, لا تقولي هو طيب هو ليس كذلك, لم يكن أباً لكِ يوماً واحداً, ولم يهبكِ شيء
سوى الشجار والحرمان والصراخ, كل ذلك خلف العصبية الدينية والتقاليد والتشدد الذي
يراه أهم منكِ ومن أختك, أمن أجله؟ أم من أجل أمك؟ هل شعرَت بكِ يوماً, هل وقفت
بجانبكِ أمام أبيكِ؟ أجيبيني لماذا تخنقي الدموع داخلك وتشهقين ياسمين, من يستحق
منكِ مغامرة وتضحية, من؟
بصوت خافت مختنق: أحببتك أكثر من روحي, لكنني لم
أكن أعرف أن حبنا سيصل الى هنا, أتصدق, كنتُ قد اعترفتُ لنفسي أنني لن اكون لك
يوماً, وأنني سأموت وقتها ولن تبقى لحياتي معنى.
- إن كنتِ قد أحببتِ شخصاً آخر, ربما كان
اعترافكِ بمكانه, لكنكِ أحببتِ جلال.
صمتنا للحظات, قُلت: انا عند وعدي ياسمين, سأحضر
لكِ جثته وآخذكِ ونهرب.
قلتِ: جلال, يجب أن أغلق الهاتف, أظن أمي تنزل
الدرج.
- سأرسل لكِ رسالة غداً بنفس هذا الوقت أكتب
لكِ فيها كيف سنلتقي ونذهب لنتزوج, سأرتب كل شيء.
- تريدني ان أهرب من كل شيء إليك جلال؟ حتى
من أهلي؟! هم أهلي كيفما كان.
- الحل صعب, لكن لا بديل له, أريد أن تتجردي
من الكون وتكوني معي, لديكِ مدتكِ للتفكير حتى غداً, سأنتظركِ في المساء في المكان
الذي سأكتبه في الرسالة, ولكِ ما شئتي, الآن فرصتكِ لتثبتي كلمة أحبك لي.
- جلال, يجب أن أغلق أمي تقترب من الغرفة.
- أنتظركِ ياسمين.
أغلقتِ الهاتف فوراً, لا أعلم هل سمعتِ آخر جملة
أم لا, كنتُ أخاف من أبيكِ في الماضي, من الزواج الذي أحلم به معكِ, والآن انا
رجلٌ لا يعرف الخوف.
ارسلتُ لكِ رسالة أنني سألتقي بكِ في المساء من
يوم الجمعة, وكنتُ واثقاً بمجيئك, حتى أنني قلتُ لأهلي أنني سأتزوج منكِ في هذا
اليوم زواجاً تقليدياً دون حفل, وإن رفضا فلن أتزوج طيلة حياتي من أيٍ كان, لكن
الحقيقة أنه التهديد ذاته, ما جعلهما يوافقا كرهاً غير مباشر, لكن أمي هي التي
كانت معاندة كما سبق وليس أبي. آمل أن يجيد تهديد قتل الشاب عند ياسمين, كما أجاد
التهديد ذاك لأهلي.
انا رجلٌ لا أبحث عن الحب فحسب, انا أبحث عن
الإستقرار ونهاية مطاف الحب معك, انا رجل منطقي, واليوم, انا أتجرد من المنطقية من
أجل الفوزُ بكِ, لو كانت عائلتكِ مسلمة ربما لم يكن موقفي كهذا, لكن شيءٌ ما
بداخلي أوهبني شعور آخر, الأمرُ ليس أنانية او عصبية, إنني فقط أرى أن عائلتكِ لا
تستحق منكِ وفاء, لا أحد في هذا الكون يعرف قيمتكِ غيري, ويستحق أن تكوني معه
سواي, مسيحيتك جعلتني قاسياً ورجل يحثُ على الشذوذ, لولا ثقتي بمدى عشقي لكِ وحرصي
عليك, تالله ما كنتُ بهذه الشجاعة لأفعلها.!
لا أعلم إن كنتِ ستفعلينها ياسمين, هل حقاً ستأتين
معي, هذا كل ما شغل تفكيري حتى مجيء يوم الجمعة.
لم تعد أمي تعلق شيئاً, بعد آخر مرة اتخذتُ قراري
أمامها مع والدي, بعد أن تشاجرت معي وأنكرت زواج ابنها دون حفل ومن فتاة مسيحية أيضاً,
هي فقط كانت تنتبه لسكوتي وانشغال فكري المستمر, وتسأل جميلة باستمرار.
ياسمين, انا أريدُ منكِ أن تنظري لنفسكِ في المرآة,
وتسمعين في كل ملمح من ملامحك صوتي وانا أغازلك, وانا ألقي لكِ شعراً, أريد أن
تعودي بذاكرتكِ الى الوراء, الى كل لحظة عشناها معاً, الى أيام الجامعة, ومجيئي لكِ
دوماً, يوم تخرجي ويوم تخرجك, وذكرياتُ أعيادنا, فلتنسي كل شجار دار بيننا,
وتتذكرين مني كل ما هو جميل, وكل طيب, انا أحبك أكثر من روحي, فليشهد لي الكون هذا
أن رجلاً أحب امرأة فأراد منها تضحية واحدة, واحدة لا غير.
فأنا اليوم أسيركِ يا سيدتي, أسيركِ الذي ينتظر
منكِ مصير مستقبله.
********
أيقنت في وطنٍ حيثُ لا وطن إلا أنتِ, أن الحبُ هو
التضحية والإخلاص, ولا من كلامِ حبٍ دون أفعال يسمو, ولا لعاشقٍ مكتوم قيمة.
دقاتُ قلبي يا ياسمين, هي الأصدق من أي شيءٍ آخر,
وعجباً لمن يشكو من الحب, عجباً لمن يعجز فيه.
لقد وجدتِ في الحجر الذي يبرز في الخاتم الذي أهديتكِ
إياه في ليلة رأس السنة صورتي وانا أقول لكِ أحبك للمرة الأولى في حياتي, كنا قد
استسلمنا لحبٍ صامت وبدأنا في التعلق ببعضنا, وبمراقبة تحركاتِ كلٍ منا, وتقريباً
قد وصلنا لمرحلة الغيرة والشعور بالحب العميق.
لقد استثنيتي من رسالتي ليلة رأس السنة كل لحظة
جارحة عشتِ فيها معي, وقارنتها بساعاتٍ وأيامٍ من الحزن والجرح بسبب والدك, أنتِ
اليوم تتخذين قراركِ الأخير, وتضعين نفسكِ في مفترق ضخم, الهواءُ فيه قليل الى درجة
الإختناق.
لا أدري فعلاً الذكريات العميقة التي راودتك, والمشاعر
التي اجتاحتك في المقتنيات الأخرى التي أهديتكِ إياها, وأيِّ طريق تظنين مصيرك فيه,
الطريق إليّ انا وحدي, أم الى ذلك الشاب وعائلتك..؟
********
إن الحياة الفضلى ليست التي نحلم, او التي مضت, بل
هي تلك التي بين أيدينا وأمام أعيننا.
لم أنم طوال ليلتي الأخيرة, أرهقني الأرق كثيراً, وضجتُ بكثافةُ
الأفكار والخيالات التي راودتني من كل اتجاه, لكنني كنت في المنتصف, لم أتمكن من
الثبات على أمل ولا حتى على خيبة, لم تستطع أفكاري حقاً أن تجيب عن تساؤلاتي وتفي
بأحاسيسي, لم أتوقع أي شيء مطلقاً, يخطرُ في ذهني أحياناً أنكِ لن تتخلي عني وعن
ذكرياتنا وحبنا, ويخطرُ لي أحياناً أخرى أنكِ لن تخرجي عن طوعِ أبيكِ ومرض الخوف
الذي يسكنك منه, وأعد أفكر بكِ كما تفكرين بي في هذه اللحظات, وأركض نحو النوم
لأهرب.
اتصلتِ بي
بوقت متأخر, قمتُ فازعاً, تأكدتُ أنكِ اتخذتِ قراركِ حتماً, أمسكتُ بسماعة الهاتف
وأضلعي تهتز كافة, لم أقل أي شيء, ولم يكن عندي كلامٌ حتى, جاء صوتكِ في حين ثم
ذهب, صمتِّ ولم يكن عندكِ شجاعة كافية لتنطقي, وبعد حينٍ من ذلك إكتفيتِ بأن
تخبريني بصوتٍ باكي مرتجف بموافقتكِ على الذهاب معي.
فعلتِها, واخترتني وحدي, وجدتِ أنني الرجل الوحيد
في حياتك منذ اللحظة, وضحيتِ بكل شيء من أجلي, ومن أجل كل لحظاتنا الجميلة والعميقة.
في ليلة الجمعة, ليلة العمر, نجحت خطتنا, وهربتِ
من بيتِ أبيكِ إلي, وقفت أنتظركِ على بعد أمتار من بيتك, وحينما أقبلتِ ذهبنا معاً
حيثُ كان كل شيء جاهز لزواجنا, لم تكن أمي راضية قط, ولم تكن مستعدة لذلك الأمرُ
الواقع, هي اكتفت بأن ترحب بجفاف حينما وصلنا البيت بعد أن أصّر عليها أبي بأن
تفعل ذلك.
أبي كان محمساً بعض الشيء, وجميلة كذلك, هو كان
أكثر من رحب بياسمين وطمئنها.
واليوم
نحن زوجانِ في بيتٍ واحد, ضحيتِ بكل شيء, إلا تجردكِ من المسيحية.
مكثنا في بيتٍ جديد, بعيدٍ عن أبيكِ, حاول الوصول
لكِ كثيراً لكنه عجز, حضر لبيت أهلي لكنهم أدّعوا أنني تزوجت رغماً عنهم وهم لا
يعرفون عني شيء بعد ان أخرجوني من البيت.
تركتِ لأهلكِ رسالة أخبرتِهم فيها عن قراركِ
بالزواج مني, لا أعلم ماذا كتبتِ فيها, أنتِ فقط أخبرتني أنكِ قلتِ فيها كل شيء,
ولا أعلم ماذا أضفتي من مشاعر وأعتذارات أخرى, او حتى من عتاب وانتقادات تجرأتي
على كتابتها ورقياً.
نعم, هناك أشياء تتعدى المنطق وتهرب من قيود العقل,
كالحب.
لقد استطعنا أن نعيش سعداء, ونكون معاً, وتضحيتكِ
جعلتني رجلاً نرجسياً بكِ, رجلاً تذوق
نشوة انتصاره بنكهة العشق والياسمين.
بعد شهرين من زواجنا, أتت لي أمكِ في المكتب, دخلت
تقدحني بنظرات استحقار, كانت تحمل في حوزتها كلاماً وصراخاً وانتقادات, لكنها كانت
عاجزة عن الفوه بشيء سوى ما كُلفت لأجله, هي فقط دخلت ووقفت للحظات قمعتني بها
بنظرات حادة, لم أتجرأ لقول شيء حتى تنطق هي, كنتُ أرغب في أن أقول لها أشياء كثيرة,
لكنني بالتأكيد لم أفعل.
قالت: إن الرب يسامح الخطايا, لكن خطيئة ياسمين لا
تُغفر, قل لها أننا نتبرأ منها, وأنها الآن في حكم المتوفية بيننا, أباها تبرأ منها.
لم أتمالك نفسي حتى أوقفتها قبل أن تخرج وقلت: لكن
ياسمين مازالت مسيحية الديانة, هي تذهب كل أحد الى الكنيسة وتصلي, هي مازالت ابنتكم
الصالحة.
- لا صلاحَ لها بعد زواجها من مسلم.
- إن ظلمها أباها فلا تظلميها أنتِ أيضاً, أرجوكِ.
-أنت من ظلمها, وأوقعها في الخطيئة التي لا تُغفر.
ثم غادرت فوراً ولم تتنظر لتسمع مني أكثر, صوتها
كان مرتجف, يملؤه الحزن, لا أعرف لماذا جائني شعور وصلني من عينيها أنها بحاجة
للسؤال عنكِ, بحاجة لأن تقول شيئاً آخر يُخرج ما بداخلها من شوق لكِ ورغبة في إحتضانكِ
رغم خطيئتك.
كم كانت لحظة صعبة حينما وصّلتُ رسالة أمكِ لك,
قلتُ لكِ ما قالت دون تفصيل الحوار كله, لم تقولي أي شيء, فقط هممتِ للبكاء, حتى
ضممتكِ إليّ بشدة.
وبعد تلك الزيارة لم نلبث لمعرفة شيء عن أهلك
مطلقاً.
********
أتعلمين أجمل ما بيننا, أننا لم نختر بطاقاتُ دعوة
فاخرة لزفافنا, ولم نحتاجُ لصالة أفراح ضخمة لتسع معازيمنا, لم تحتاجي لأن تتوتري
من أجل إختيار فستان زفاف مميز, وتختلفي معي على شكل وقيمة دبلة الزواج, لم نحتاج
لتكاليف زواج على الرغم من توفرها, ولم نختار شكل ومساحة وديكور البيت الذي سنسكن
فيه, إننا فقط إخترنا أن نكون معاً, بحب حقيقي, بعيداً عن كل هذه الإشكاليات
المزيفة.
لم تكوني كباقي النساء, وما كانت تصرفاتي معكِ
واجبات او أمور حتمية من زوج اتجاه زوجته, بل كنتِ كطفلة لم تلبث لرؤية شيءٍ بعد,
أشياء تافهة وأمور اعتيادية كانت تفرحكِ كثيراً, كأن أفتح لكِ باب السيارة, او أن
أمد لكِ الكرسي لتجلسي, او أن أعانقكِ في كل لحظة رومانسية, او أتشدد عليكِ غيرة
وخوف, هذه الأشياء وما شابها كانت أغلى عليكِ من أن أفعل أكثر لأجلكِ, فكان يروق
لي أن افاجئكِ بما لا تتوقعين, كأن أعود للمنزل بباقة زهور, خاصة زهر الياسمين, او
أن أحضر لكِ هدية بسيطة, او أحتفل معكِ احتفالاً مميزاً في أعيادكِ الخاصة, لأرى
دمعتين تخجلا الذرف في الموقف, تبتسمان وتقولانِ لي كلاماً معسولا.
بعد زواجي من ياسمين, أصبحت المسيحية أمراً في غاية
الحساسية بالنسبة لي, أصبحتُ أحتفل معها في أعيادها, وأصطحبها للكنيسة دون دخولي,
وانتظرها في الخارج, أصبحت أزيّن صورة ياسمين لدى أهلي وخاصة لأمي لتشعر أن لها
عائلة أخرى, ولا بد وأن ياسمين وأسلوبها بل وما أُنشأت عليه أيضاً يجبر الآخر على
محبتها و الإرتياحُ لها, كنتُ أقبل لأهلي دوماً برفقة ياسمين, وأبني أواصِرَ الحب
بينهم حتى أمست الهشاشة التي بين أمي وياسمين تتلاشى.
تشفق أمي عليها أحياناً, وتراها وحيدة بين عائلة
أخرى, عائلة ليست من دينها, خاصة في اللحظات التي تجلس فيها ياسمين صامتة او هادئة,
وحينما يلفت أنظارها لوحات الآيات القرئانية, وتنصرف عنها برعشة, تشعر أمي أنها
فتاة غير عادية, وتفكر هل يستحق ابني جلال فعلاً تضحية كهذه؟
تُرى هل تثق به الى حد أن تتزوج منه وتتخلى عن كل
شيء, الى من ستلجئ إن جرحها او أهانها, وكيف ترمي الى جلال كل ما تملك في ظل وحدتها
القاسية هذه, هي تشبه أمها التي تستسلم للزوج وتحتمل منه كل شيء في سبيل البقاء معه
والإحتفاظ بها, لكنها كانت أجدر منها بإختيار الرجل الذي تفعل معه ذلك.
طبية هي أمي, طيبة جداً وقلبها رقيق, بدأتُ أرى في
عينيها حُبٌ وشفقة تجاه ياسمين, خاصة بعد أن تعرفت عليها جيداً وعلى قلبها النقي, أصبحت مع مرور الأيام والأشهر ترى نفسها مسؤولة
عنها, وحامية لها في ظل أي ظلم قد يقع على الفتاة التي اختارت ابنها واستدارت
للعالم جميعاً.
اليومُ, نحن في بيتِ أهلي نحتفل بمرور سنة على
زواجنا, ونحتفل أيضاً بتخرج جميلة من الثانوية والإستعداد للجامعة, أجوائنا جميلة
وصاخبة والعائلة كبيرة تضفي جواً وحياة, بعكس الهدوء والإتزان المبالغ فيه الذي
كانت تعيش فيه ياسمين في بيت أبيها.
في تلك الأثناء, وصلتنا رسالة استدعاء لي, للإقبال
للعسكرية من جديد, موثِّقة عدم التأجيل بسبب التكرار, انطفأت الأضواء في أعين
الجميع, وانتاب أمي شعوراً بارداً أصابها بالجمود, واستمرت في قراءة الإستدعاء مراراً
لتتأكد من حقيقتة, مازالت أمي تستبعد أمراً كهذا.
قلت رافعاً نظري عن ورقة الإستدعاء: ربما حان وقتها
لا محاله.
استدارت أمي تفجر دموعها, وغرقتِ أنتِ في بكاء بلا
أصوات, وجلستِ بوضع يديكِ على وجهكِ متحسرة.
في الحقيقة, كنتُ متوقعاً يوماً كهذا, لكنني الآن
مختنق, هل بعد أن حققت حلمي بكِ أذهب لقضاء سنتين أو ما هو اكثر للعسكرية!
لا حل, ولا هروب, ربما يمكنني أن أسعى بالفعل لأهرب
او أنفذ بطريقة ما, خالي رجل ذو منصب لا بأس به, هو لن يتمكن من إعفائي, لكن يمكنه
أن يقوم بتهريبي خارج البلد, وبالتأكيد لن ألجأ للهروب من العسكرية بالسفر, خاصة
وأن عودتي لن تكون سهلة وربما سأسجن حال عبوري الحدود بالعودة, فأيٍ كان ما خطر في
بالي, لكن الهروب تصرف غير رجولي ولا أخلاقي, وانا لستُ مضطراً لذلك بكل الأحوال.
********
وطن, وحب في الأرحام يولد مع كل اعتراف, وغصةٌ في
نفسي يهضمها رحيقك. بربك, أين انا من أبجدية عيناكِ حينما تبكين, كيف لقلبٍ ورديّ
أن يُغرس في أبحرة الحزن؟ ربما شيئاً من ذلك كله كان في أعماقي أيضاً, ولكن أصعب
بقليل, فأجُفُ بحرقتي وترويني دموعك لأعد حياً من جديد, يتنفس مع كل ذرة أكاسيد
اختناق.
ذلك الذي ادّعى أننا حينما نتوب عن الحب نشفى, أخفق حد الثمالة.
بدأت ليلتي بتحضير نفسي للعسكرية, ربما يسمحون لنا أن نزور أهالينا كل فترة, صحيحٌ أنني سأبتعدُ عنكِ, لكنكِ ستكوني معي بكل لحظة, كما كنتِ بالسابق.
ذلك الذي ادّعى أننا حينما نتوب عن الحب نشفى, أخفق حد الثمالة.
بدأت ليلتي بتحضير نفسي للعسكرية, ربما يسمحون لنا أن نزور أهالينا كل فترة, صحيحٌ أنني سأبتعدُ عنكِ, لكنكِ ستكوني معي بكل لحظة, كما كنتِ بالسابق.
دخلتِ الغرفة, كنتُ أضع ملابسي ومقتنياتي اللازمة
في حقيبتي الخاصة, كنتِ تنظرين إلي متحسرة, وكأنما تحملين هموماً بعدد النجوم, قُلتْ:
هل كانت أمي المتصل؟
- نعم لقد أنهيتُ المكالمة معها قبل قليل.
- هل هي بخير؟
- أظنها أصبحت أفضل, هي لن تكون بخير طالما
ستذهب.
أقتربتُ منكِ واضعاً يداي على وجنتيكِ قائلاً:
وماذا عنكِ؟
أدمعتِ, وقلتِ:
لن أجيبك, أيُ كلماتٌ تفي بغرضي؟ وتعبر لكَ ما
بقلبي؟
ضميتكِ بشدة, قلت:
ياسمين, لن أتأخر, هي سنتين.
- تقولها وكأنها ساعتين!
- لا تبكي, بل يجب أن تكوني سعيدة, لأنني سأذهب
للعسكرية الآن وليس قبل ذلك, أتعرفين, لو أنني ذهبتُ بالإستدعاء الأول او الثاني,
لكنتُ مضيتُ هناك وقتاً قتلني, لأنني كنتُ سأخسرك ولم أتزوج منكِ, أما الآن, أنتِ
زوجتي, التي سأكون هناك مطمئناً عليها ومرتاحاً.
- أنت حقاً رجل مجنون.
ضحكتُ بصوتٍ عال حتى ضحكتِ وبان ثغركِ, فتوقفتُ عن
الضحك وقلت:
هذه الضحكة التي أرى, لا أريد أن تفارقكِ.
- كيف لي ذلك ببعدك؟
- أطيعيني يا فتاة.
ضحكتِ وأدمعتِ في وقتٍ واحد, ثم أخذتي شهيقاً
وأقبلتِ نحوَ المنطدة متناولة من صندوقِ مجوهراتك سلسلة ذهبية, فيها تعليقتين, لم
تكد واضحة لي من بعيد, أقتربتِ وقدمتِها لي دون أن تقولي شيئاً, تناولتَها منكِ
وبدأت أفرّق بين التعليقتين بإبهامي, كانتا الصليب ومصحف صغير, تعجبتُ كثيراً, هما
موضوعتانِ في سلسلة واحدة, متلاصقتين حينما تفلتهما من يدك, قلت:
ما هذا ياسمين؟
- هذا مثيلُنا.
- لم أفهم.!
- هذا الصليب, إشتريته بعد زواجنا بمدة قصيرة
لأثبت للرب أنني مازلتُ مسيحية, أما القرآن, فلقد إشتريته لأثبت لنفسي أنني تزوجتُ
مسلماً.
- ياسمين, لا أفهمُك.
- لا داعي لذلك الآن, أنتَ فقط خذ هذه السلسلة
معك, واعتني بها, تذكرني بها جلال كل ليلة.
صمتُ وأهبتُكِ علاماتُ تعجب في ردودِ فعلي, ثم
قبضتُ يدي عليها, ووضعتُها في حقيبتي, وعدتُ لأعانقكِ من جديد.
********
أجلسُ في الحافلة مع شبان العسكرية الذاهبين معي,
أنظُر الى الطريقِ التي نعبر وبالي معكِ, أهتف بصوتٍ منخفض مقاطع من أغنيتكِ
المفضلة, التي تقولينَ لي دوماً أنها تذكركِ بي.
رائحة أمي مازالت عالقة بي حينما عانقتني عناق
الوداع, وصلبِ يدا والدي حينما ربّت على كتفي مازلتُ أشعر بها, ودموع جميلة الصغيرة,
المنذرفة من عينتيها العسليتين, مازالت يداي رطبة حينما مسحتهما عن وجنتيها, صورة
الوداع عالقة أمامي, مؤلمة هي, عنيفة حينما تعجزُ عن إيقاف مشاعر الوداع الجياشة بحرقة لدى من تحبهم.
أما صورة وداعي معكِ, فتلكِ لن أتذكرها الآن,
لأنني سأنسى أنني رجل ذاهب للعسكرية, وسأكونُ طفلاً في أول سنوات عمره.
وصلنا, وأخذ كلٌ منا مكانه, وبدأ المدربون
العسكريون في ترتيبنا, وانتهى اليومُ في تنظيمنا وترتيبنا لنبدأ التدريب في مطلع
اليوم التالي.
أنزل الليل ستائره السوداء, ومن ثقب صغير في
السماء تدفق القمر.
دخلتُ الى الغرفة المخصصة للنوم, كان معي أربعة
شبان آخرون بنفس الغرفة, مكثنا الليل في حديث طويل وتعارف, كلٌ منا يتحدثُ عن نفسه
وعن حياته, ارتحتُ لهم وأعجبني السهرَ معهم, ياسر ومراد ونبيل وسعيد.
مراد كان في السرير المجاور لسريري, بينما ياسر في
السرير العلوي فوقي, مكثوا للنومِ بعد مدة من السهر الطويل, وكنتُ انا في سريري
دونَ نوم, لم أتمكن من إغفاءِ جفنٍ وانا أثق تماماً أنكِ الآن وحدكِ في سريركِ
تبكينَ وتدعين.
آه يا ياسمين, من وداعي معكِ, مهما حاولت التعبير
عنه سأعجز, حينما أتيتُ لأودعكِ الوداع الأخير, نظرتِ لي نظرة لن أنساها, كانت
عيناكِ تحتبسُ الدموع, كم هي جميلة عنياكِ حينما تدمعين, يتبلل الكُحلُ منها
ويسيلُ الدمعُ إجباراً عنكِ, انا لن أتمكن من وصف نظرتكِ لي, وحدها الصورة هذه
ببالي لا تُنسى, ولا تكادُ تُفسر, لامستِ يدايَ بكفتيكِ الناعمتين وأخذتي تداعبين
دبلتي, مكثتي تنظرين لي طويلاً وكأنما تخزني صورتي الأخيرة هذه في عقلك, كان فمكِ
مغلق يُفتح كل حين لاستنشاقِ هواءٍ واستعدادٍ لقولِ شيء, لكنكِ عجزتِ عن الفوه
بكلمة, وكأنما تستتفهين كل الكلام أمام ما تشعرين به في تلك اللحظة, كنتِ تدعين
وتصلين في صمت, غارقة في النظرِ إلي موجهة ما تقولين في نفسكِ لي, هربتْ كل
الكلماتُ من فمينا, استمريتُ في النظرِ الى عينيكِ, حتى خفضتِ رأسكِ للأسفل وانسابت
دموعكِ, وانسدل شعركِ مغطياً وجهكِ عني, رفعته بيدي موجهاً رأسكِ الى أعلى,
متأملاً عيناكِ الحزينتين, ثم ودعتكِ بكلماتٍ مهدّئة ومواسية, شديتِ على يداي
وابتسمتِ ابتسامة لم أكد أنساها أبداً, حزينة ولكنها مستسلمة, راضية لكن إجبراً, آه
يا ياسمين من تلك النظرة ومن تلك الإبتسامة, جعلتني طفلاً ودعّ أمه ولم تفطمه بعد.
نعم لقد أدمعتُ في تلك الليلة, وشعرتُ باختناق
كبير, انا أعلم أنكِ تفكرين بي الآن, وتبكين بحرقة.
وعدتُكِ أن لا أبكي, لكنني عجزتُ يا ياسمين, أراكِ
أمامي بكل زاوية في المكان, وأسمعكِ تحدثيني لكن المسافة بيننا شتتت الكلمات, إنني
لا أعرف ما تقولين لكني أشعرُ به.
********
في مطلع اليوم التالي, الساعة الخامسة صباحاً, استيقظنا
جميعاً و أقبلنا لتناول الفطور, كلٌ منا له طبق فيه ما تيسر من طعام بسيط, ذهبتُ
إليكِ في خيالي, تُرى هل تجلسين مع أهلي على مائدة الإفطار الآن؟ أم تجلسين ببيتنا
وحدك؟
انتهينا ووقفنا بنظام في ساحات التدريب, خرج رجال من
المدربين أحاطونا للتنظيم, وأملا علينا واحد منهم التعليمات وأعلمنا بأوقات
التدريب والراحة, وبعد حين من كلامٍ كثير لم أكترث له كله, خرج رجل يرتدي ملابس
الضباط العسكريين, رجل ذو هيبة, طويل القامة, ضخم البنية, يرتفع برأسه الى أعلى
بشموخ, عابسَ الوجه ينظرُ لنا كعبيدٍ لا أكثر, نظرات غير مريحة ولا متواضعة, وقفَ
صامتاً ينظرُ لنا يبحثُ بين وجوهنا على ما لم أفهم, ثم قال بصوتٍ عال مضخّم:
انا الضابط ناصر هلال, سأكون المشرف والمدرب الخاص
لكم.
صرخت دواخلي بعنف: ناصر هلال! أبا ياسمين.! نعم إنه
هو!
هل يتلذذُ القدرُ بتعذيبي, أم يريدُ أن يسلب مني
أفراحي ويمضي, أباكِ يا ياسمين يقف أمامي يصرّح بأنه سيتولى تدريبُنا, هل قصد فعل
ذلك حينما قرأ اسمي في ورقة أسماء الشبان المطلوبين للعسكرية, أم كانت تلك صدفة
عابرة, أيُّ ترجمة لهذه اللحظة ستفي؟
أمسكَ بورقة أسمائنا, وبدأ يتأملها قائلاً:
فليذهب الجميع للمنطقة الخلفية حيثُ سنبدأ
التدريب.
همّ الجميعُ للذهاب حيثُ مكان التجهيزات للتدريب,
وفي حين فجأة صرخ قائلاً:
جلال رضوان, فليبقى هنا ويذهب الجميع.
أخافتني كثيراً رجفات صوته حينما نطق باسمي, دقّ
قلبي بسرعة, ظننته سينتظرُ حتى تجمعنا صدفة يعرفني بها, لكنه بالفعل هنا من أجلي,
فلماذا ينتظر, الموقف بيده, هذا ما كنتُ قد اقتنعتُ به.
ذهب الجميع, هو لم يكن ينظرُ لنا في شوق ليرى من
سيبقى ليعرف من أكون انا, بل كان ينظر للسماء ويداه متشابكتين خلف ظهره, أقبلتُ له,
في كل خطوة كنتُ أقتربُ منها إليه كنتُ أهمس في ذاتي:
أسترجل يا جلال, كن قوياً, يجب أن يعرف أنك رجلاً
لا تخاف ولا تهتم, ماذا يعني إن كان هو من سيدربني, او حتى إن كان يقصدني دون أي
شخص آخر, لا يهمني..
وقفتُ أمامه حيثُ وصلتُ عنده, لم أتفوه بشيء, بل
صمتُّ في شموخ رافعاً عيناي باتجاهه لم أحركها لا يميناً ولا يساراً.
خفض نظره إليّ, وبدأ يتأملني, لم نتفوه كلانا
للحظات, ثم قال بعد حين:
إذاً, أنت جلال.
قلت بثقة: نعم.
ابتسم بخباثة, وقال: أنتظرُ رؤيتك من زمنٍ بعيد,
أتشوق انا لمعرفتك.
- كنتُ آمل أن أتعرف عليك, لكن الظروف لم
تسمح.
- ها هي الظروفُ تسمح الآن, سنتعرفُ بإكتفاء,
حتى تملَ..وربما حتى تموت.
- ماذا تقصد؟
صرخ في وجهي فجأة قائلاً:
تتحدثُ مع صديقك أنت؟! انا هنا ضابط عسكري تحدث باحترام.
انتفض جسمي, قلت: ماذا قلتُ انا؟
- أصمت, ولا تتحدث دون أن تقول يا سيدي, أتفهم
يا غبي.
ضجتُ وثارَ دمي, لكني تمالكتُ نفسي, صمتُّ ولم أقل
شيء, واستمر هو في قدحي بنظرات استحقار, حتى قال بصوتٍ أقل علو:
انصرف الى زملائك هيا.
********
آه من ذلك اليوم, هممتُ للنومِ بحالة سيئة جداً,
كنتُ مرهق ومتعب حتى الموت, لم ينتابني تفكير ما قبل النوم أبداً, إنني بدأت في
تفكير انتهى بمجرد تغميض عيوني وذهابي في نوم عميق.
فكرتُ أن والدكِ يا ياسمين قد عرف طريقه الآن,
وحدد هدفه, انا الهدف المنشود الذي يرى أن الإنتقام منكِ يكن من خلالي, اليوم لم
يرحمني, لقد استغل كل سلطاته ومكانته وعدم وجود قوة أكبر منه في معسكر التدريب,
ليجعل مني عبداً ينهكه ويكسر همته ويقضي عليه, الكلُ كان يتدرب ويشقى, لكنه كان
يختارني في كل مكان صعب ومحاولة هالكة, ويجبرني تحت وطئة الحكم والإستعبادية,
ويصرخ طوال الوقت.
هو لا يريدُ أن يدرب, هو يدرب الجميع ويشقى الكلُ
معه, لكنه لا يرى سواي في الباحة, يختارُ أي طريقة أشقى ليُخضعني بها, هو يبدأ في
إخراج الغضب والحقد الذي يملؤه تجاهكِ بي.
في مطلع اليوم التالي, عند الإستعداد للتدريب,
وقفتُ في الطابور بين الشبان, أغرق في التفكير, هل حقاً ما فكرتُ به ليلة أمس
باللحظات الأخيرة قبل نومي كان منطقي؟! أم أنني وقعتُ تحت تعب وتدريب قاسي لليومِ
الأول فبدأت التفكير بهذا الشكل؟ لكنه لن يرحمني وانا بين يديه, لا يهم, انا هنا
الآن لأخوض العسكرية, سنة, سنتين, او حتى ثلاثة, يفعل ما يشاء, بالنهاية سأعودُ
لكِ لتستمر حياتنا الجميلة, فليفعل ما يشاء, لن يُرجعّكِ إليه بتعذيبي.
ظننتُ أنني ذكي, فسرتُ الأمر بالكامل ووضعتُ حلوله,
ووضعتُ أبيكِ في خانة الأغبياء, فمهما يفعل لن يطولَ هدفاً جوهرياً, ففي النهاية
سأعودُ لكِ وسينتهي مني.
لكنني كنتُ رجلاً عظامه مازالت ليّنة, أظنُ أن
أبيكِ قد خدمني بتعذيبه إياي, وإلا لم أكن لأفهم الحياة, ولأفهم أن الذكاء أن لا
ترى من حولكَ أغبياء.
بدأنا التدريب, وكان يقفُ هو يشرف على تأدية كلٍ
منا بالصعود للأشباك والنزولِ عبر الحبل, جربها الجميعُ حتى أتى دوري, لم أكترث له
وصعدتُ بهمة وقوة, لكنه جعلني أكررها مراراً, بحجة أنني لا أتقنها, حتى تعبتُ ولم
أساوي زملائي بالهمة للتدريب التالي.
كان التالي له علاقة بالعبور من تحت الأسلاك في ظل
وجود الدخان والرمال, كان يقصدُ أن أفعلها أولاً, لألا آخذ وقتي في راحة مؤقتة ممن
سبقها, فجعلني أكررها ايضاً, بل وفي المرة التالية وضع رجل من المدربين المزيد من
الرمال وزاد شعلة الحريق خلال عبوري فتعثرت محاولتي في النجاح بها, لا بد وأن
بعضاً من قليلي الحيلة من الشبان قد فشل بها وكررها, لكنني كنتُ أكثر من كرر
المحاولات في كل مرة.
بدأت الشمسُ تميل نحو الغروب, لم أسترح إلا مرة,
استراحة لم تتجاوز العشر دقائق, ثم جاء وقت الغذاء, لم أتناول الكثيربالرغم من
جوعي الكبير, لكنني كنتُ متعب جداً, ومدة الطعام قليلة نوعاً ما, كنتُ احتاجُ
وقتاً كافياً منها لأشبع رغبتي في الأكل والراحة معاً.
عدنا بعد راحة, كانت الشمس أوشكت على الغروب وحلول
الظلام, كانت الباحة مشتعلة بنار الأخشاب, تدربنا بشكل بسيط ثم انتهى اليوم وهممنا
لغرفنا, كنتُ مرهقاً للغاية, أنامُ دون شعور, استمر الحال هكذا عدة أيام, وهو
يمارس نفس الأسلوب الحقير معي, دون وجود قوة أكبر تمنعه عن شيء!
صباح اليوم, خرج لنا الضابط, وإختار اثنين لكلٍ
منا ليتبارزا معاً, واختار رجلاً بقامة ضخمة وطول وحجم ليتبارز معي, صُدمتُ من
الإختيار, حتى أن مراد نظر لي من بعيد وشعرتُ في عينيه خوفاً وشفقة على سوء
الإختيار الذي وضعتُ به, ابتسمتُ في نفسي لشعوره اتجاهي, ثم نظرتُ الى عينيّ الرجل
الذي يبارزني لأكتسب القوة والثقة, وبدأنا في مبارزة, لكنني فشلت بها, كان أطول
مني بالرغم من طولي الجيد, وكان ضخماً لم أتمكن منه, هو متمرس ومتصدي لكل ضربة,
متدرب على المبارزات بشكل جيد جداً, بدأتُ أشكُ فيما لو أن أبيكِ قصد اختياره لي,
او حتى تمكينه خصيصاً من أجلي, هو لم يكن يبارزني فحسب, بل كان يؤذيني بحجة دفاعه
عن نفسه, وما كان يثير غضبي أن لا مدرب ممن يقفون ولا حتى الضابط نفسه كان يحاول
منعه إيذائي باعتبارنا نتدرب ولا نتبارز في حلبة مصارعة.
صرختُ بصوتٍ مرتفع حينما ضربني على صدري بقوة
آلمتني, همّ إلي بعض الزملاء منهم مراد ومدربون, وأقبلوا للإطمئنان علي, صرخت:
هل نتبارز أم نتدرب, هذا الرجل يضربني كما لو أنه
ينتقم.
صرخ المدرب بوجهه: ما بك يا رجل؟!
قال: كنتُ أدافع عن نفسي فحسب, لم أقصد إيذائه.
قال المدرب: هيا فليذهب الجميع للغرف انتهى التدريب,
وأنت, بماذا تشعر هل تتألم كثيراً؟
قلت: لا, أريد الذهاب لغرفتي فقط, ساندني مراد.
قال الرجل مازحاً: أعتذر منك يا رجل, ما بك عظمك هش.
ابتسمتُ له مستسخفاً مزاحه, ثم غادرتُ للغرفة بصحبة
مراد.
ساندني مراد وسطّحني على السرير, ثم جلس مقابلي
على سريره بصحبة الرفاق, قال سعيد:
إختيار هذا الرجل مقابلك ليس عدلاً يا جلال.
قلتُ بصوتٍ ينتابه الوجع: وهل كل ما يفعل بي
عدلاً؟! سأموت بين يدي هذا الرجل!
ياسر: صحيح لماذا يفعل بك هذا؟ أشعر أحياناً أنه
يكرهك.
نبيل موجهاً كلامه لياسر: ما بك يا رجل, ولماذا
سيكرهه؟
مراد: ياسر محق يا نبيل, منذ لحظة التدريب الأولى
وهذا الضابط يُحمّل جلال فوق طاقته, ألم ترَ ذلك اليوم كيف جعله يكرر حمل الأثقال
مراراً, مع أنها محاولة مهلكة إن تكررت, لم يكررها سوى من عجز عن استمرار حملها
حتى نهاية الخط المحدد, لكن جلال بالرغم من نجاحه فيها لكنه كررها بحجة بطئ السير.
ياسر: أكثر من شاب كان بطيئاً يا نبيل, لكنه لم
يكترث سوى لجلال, هذه مرة من المرات التي يفعلها مع جلال.
نبيل: لا أدري, لكن جميعنا هنا واحد للتدريب,
لماذا سيتقصد جلال دون آخر.!
سعيد: هو شخص مريب, يتقصدُ كل الضعفاء منا ويقسى
عليهم كثيراً, لكن الغريب أن يتقصد جلال بالرغم أنه رجل بهمة وقدرة جيدة.
مراد وهو يضحك: جلال ذهب في نوم ونحن نناقش الأمر,
يومنا كان متعب هيا يا رفاق فلننام نحن ايضاً.
*******
أشكال هندسية مرتبة تريح ناظريها, طاولة مستطيلة,
وأطباق دائرية, واسطوانة في المنتصف تحمل ورد النرجس الذي يقيم في الأنفف, وأنتِ
تجلسين على المائدة لا ترين سوى صورتي أمامكِ, تريني في كل زاوية بالبيت, وترتعشين
حينما ترين قوامي في رجلٍ آخر, تبقى أمي مسافرة معي, الى حيثُ أكون, وماذا آكل؟ وهل
أتكشفُ ليلاً يا تُرى, لكنها أيضاً تنظرُ إليكِ بعينٍ حزينة, كم هي متعبة منكسرة هذه
الفتاة, حزينة على زوجها الذي لم تلبث سوى سنة واحدة على زواجها منه فرحل, بعد
تعلقها الكبير به, ووحدانيتها بدونه.!
تقول أمي واضعة الطعام في طبقكِ:
هيا عزيزتي فلتأكلي.
تمدين يدكِ محركة الطعامُ بملعقتكِ بهدوء, وتتناولين
الطعامُ لقمة أصغر فأصغر.
امي: عزيزتي, ما بكِ فلتأكلين جيداً.
- وهل لي من جوع او شهية للأكل يا خالتي.
غيّرت أمي مقعدها وجلست بجانبك, وضعت يدها على ظهركِ
قائلة:
لا تبقي حزينة يا ابنتي, جلال رجل, ابني أيمن ذهب
للعسكرية بشبابه, وبعد سنتين عاد وأكمل تعليمه وتزوج, سيعود جلال أيضاً لا تقلقي.
جميلة مشاركة الحديث بحزن: ستمر السنتين ويعود,
ووقتها سنعيش أياماً جميلة وتستمر حياتنا بسعادة كما كانت.
أمي: حفظه الله, كان دائماً يقولُ لي اصبري يا أمي
وكوني صبورة, لا تتعجلي الأمور ليأتيكِ الخيرُ محملاً.
ثم تابعت بعد شهيق متعب: آه, ها انا صابرة يا
عزيزي, ولا من حل آخر عندي.
امسكتِ بيديّ أمي, وربتِّ عليها, قلتِ:
سنصبر يا خالتي, سنصبر لأن الصبر يحمل الفرج, ولأن
جلال يصبر أيضاً بمكانه الآن, انا أثق أن الغد أجمل.
********
لم يرحمني أباكِ يا ياسمين, كنتُ كعدوٍ وقع بين يديه,
هو لا يُظهر الإنتقام فحسب, بل يُظهر الحقد والكره والبغض الذي يملؤه, ينتابني في
بعض الأوقات التي نجلس لنرتاح فيها أفكارٌ غريبة, فيما لو أنه يتشدد أكثر فأكثر
على أختكِ الصغرى خوفاً من تكرار تجربتك, او أنه تظاهر تغاضيه عن مسألة التخلص من
عاركِ وخطيئتك ليعوضها في الهدف الأهم, الذي هو انا, انا الذي أخذتكِ من بين أهلك
وحرضتكِ على خيانتهم وخيانة دينك, بدأت أشكُ فيما لو أنه يخطط للإنتقام الفعلي
مني.!
وقفنا في الباحة بانتظام, خرج الضابط, وأملا علينا
بعضاً من التعليمات, لمرحلة جديدة من التدريب, أعطى كلٌ منا مهمة, يمارسها لشهرين,
دون مخالفة ولا تقصير بها, مزوداً التهديدات ذاتها, وحينما أتى دوري, كانت مهمتي
الحراسة الليلية, ابتسمتُ ابتسامة طرفية, ساخراً او مستسخفاً, متوقعاً مهمة صعبة
خاصة لي, هو لا يريدُني أن أرتاح, ولا يريدني أن أنام.
قال أحد الشبان ممن يقفون: سيدي, متى سنبدأ
التدريب بالرصاص والتصويب.
صرخ فيه قائلاً: ليس الآن, ليس قبل سنة من
التدريب.
لا أعلم لماذا نظرته لي حينما كان يقولها, جعلتني
اسمعها: ليس قبل سنة من التعذيب.!
في المساء, وقف مراد معي, هو أيضاً حصل على مهمة
الحراسة, وأخذنا نتحدثُ ونضيّع الوقت هاربين من برودة الطقس, وقشعريرة الهواء,
والتعب والنُعاس.
خرج الضابطُ يريد المجيء نحونا, رآه مراد يقبل من
بعيد, قال:
يا لليلتنا! ماذا يريدُ هذا منا؟!
بدأ يقترب, فتحتُ عيوني جيداً كما لو أنني ممارس
محترف لمهنتي, وقفتُ رافعاً قامتي كنشيطٍ استيقظَ من قليل, وحينما وصل عندنا, نظر
إلينا قليلاً ثم صرخ في وجه مراد:
ماذا تفعل هنا؟
قال: انا أحرس المكان مع جلال, هذه مهمتي التي
وُكِلت.
تابعَ صُراخه: إنصرف الى الجهة الخلفية حيثُ الباب
الخلفي, هناكَ ستحرس وليس هنا يا غبي.
همَّ مراد للذهاب دون أن يقولَ شيئاً, فصرخ
الضابط:
إياكَ أن تجيءَ الى هنا مجدداً, او أن أراكَ ساهياً
عن عملك وتقف تتحدث.
ثم اقترب نحوي بعد أن ذهب مراد مغتاضاً غاضباً,
وقال:
مهنة مناسبة أليس كذلك؟
قلت: هذه مهنة الرجال.
- واثقٌ بنفسك كثيراً, يا لغبائك, تظن أنك
رجل, أنت نقطة في بحر الرجال.
- لو لم أكن رجلاً, لما فزتُ بياسمين.
صفعتَه بكلمتي, واحتقنَ هو غضبه, قال متصنع الهدوء
ولم يصرخ كعادته:
لكنكَ ستخسرها.
وابتسم ابتسامة تحقير, قلت ولم أكترث:
لن أخسرها.
-تتكلم بجرأة غريبة, ألا تخافُ يا هذا؟!
- الرجال لا تخاف, ماذا ستفعلُ بي أكثر مما
تفعل.
قال مقطعاً كلامه كلمة كلمة: انا..باستطاعتي.. أن
افعل..أكثر..بكثير.
- ها, لذلك تحاول أن تعذبني؟
- قيمتك بالنسبة لي, أحقر بكثير مما تظن, أتفهم؟
صمت قليلاً ثم تابع بلهجة خبث: كلاكُما سيدفع
الثمن, هذه عاقبة كل مخطأ.
- إفعل بي ما شئت, لكن لا تحاول أن تؤذيها.
باستهزاء: ذكي.
ثم تركني وهمَّ للذهاب, قلتُ متغاظاً رافعاً صوتي:
ألم تتبرأ منها؟ ماذا تريدُ أكثر من ذلك؟
لف وجهه اتجاهي ضاحكاً بسخرية وقال:
ذكي, لكن لا تخلو من الغباء.
ثم أخذ يضحك بصوتٍ عال ليستفزني, وغرقتُ انا طوال
الليل في تفكير عميق لكل ما قال.
في حلول أذان الفجر, أقبل أحد المدربين علي, وقال
لي أن أخلد للنوم حتى التاسعة صباحاً, لأعود للتدريب مع زملائي من جديد, لكنني لم
أنم إلا ساعات متقطعة لم أرتح فيها أبداً, وانا أحلل الكلام الذي بات بألغازٍ
وكأنما لا أفهم منه حرف.
********
لا شيء أكثر, ولا شيء آخر..
ثمة أشياء تقتلني كل يوم, وتثير بي التساؤلاتِ
الجمة, وثمة مشاعر لا أعرف من أين تأتيني, أحتاج للراحة, لراحة البال وراحة النفس,
هل انا حقاً خائف من أبيكِ؟ أم أنني رجلٌ لم يعد يخاف بعد أن حصل عليكِ؟!
ماذا سأفعل؟ أتلاشاه؟ أقاومه؟ أستمر في تحدّيه؟ أم
أرمي كل ذلك خلفي, لكنني لستُ مخيّر, انا تحت تعذيب و قهر, والواقع يضعني في موضع
مواجهة لا مجال.
لا استطيع استيعاب الكثير, إنني فقط كنتُ قلباً
بكل لحظة قضيتها معكِ مسبقاً, وبكل لحظة سعيتُ وجننتُ لأحظى بكِ, والآن انا أصبحتُ
عقلاً, لا يجيدُ سوى المواجهة والتصدي.
استمر الحال هذا طويلاً, بين يومٍ يكون فيه أباكِ
طبيعياً, ويوم يكون كالمجرمين, كنتُ أشعر أحياناً أنه كالمريض, لا أحد يدري ما
الذي يدور في رأسه.
بعد مرور أربعة أشهر من وجودي في العسكرية, حلت
إجازة الأسبوعين,استقبل زملائي الرسائل والمحادثات الهاتفية من الأهل في الخارج,
والآخر همّ لزيارات الأهل في البيوت لإجازة اسبوع, لكنني لم أحظى بأيٍّ من هذا,
أقبلتُ لمكتب الضابط حيثُ لم يسمح لي الحراسُ بالدخول لكنني استمررتُ بالصراخ
والتصدي لهم لأدخل إجباراً عنهم, حتى صرخ الضابط وخرج قائلاً:
ماذا يجري هنا؟
همَّ أحد الحرس للإجابة لكنني قاطعتُ بصوتٍ عال:
لا يسمحون لي بالدخول إليك, وانا أريد أن أراك.
نظر لي يفكر فيما أن يدخلني أم يصرفني, ثم قال بهدوء:
أدخل.
قلتُ وقد دخلتُ صافعاً الباب خلفي: لماذا لا تسمح
لي بزيارة أهلي؟ هذه ليست من صلاحياتك.
- من أنت لتحدد صلاحياتي؟!
- لماذا لا تسمح لي بزياة أهلي؟
- ممنوع.
- لماذا؟ الكل ذهب ليزور أهله, هذا حق كل
متجند عسكري, زيارة الأهل بعد طول غياب.
- أخرج من هنا هيا, انا مشغول.
- لن أخرج, الإجازة وقتها محدد وان لم أزورهم
الآن سأنتظر حتى العام القادم.
- لا يهمني.
صرخت: لماذا تفعل بي هذا؟ تعذبني وانا أعلم أنك
تستغل منصبك وعسكريتي لتفعل ذلك, وها انا أحتمل, ولا من قوة تقفك عن فعل ذلك لأنك
ذو منصب, والآن تمنعني عن رؤية أهلي, عن رؤية زوجتي وأمي, ما لقلبك؟
- أصمت, ولا تتعدى حدودك, وانصرف هيا.
- أنت أقسى من الحجر, تالله ما كانت ياسمين
مخطأة حينما خرجت عن طوعك من أجلي, وحينما قالت أنك قاسي وصلب, ابنتك لم تخرج عن
دينها, هي خرجت عنكَ أنت, دون أن تكترث ما دين الرجل الحنون الذي عشقته وعشقها.
قمعني بنظرات متفجرة بالغضب, تابعتُ ولم اعطيه
مجالاً للرد: أفعل ما شئت, لن يصيبني إلا ما كتبه الله لي, فإن كنتُ صلب وقاسي,
فأنا رجل يحتمل, ويصبر, وكما أخذتُ منك ياسمين, فانا سأحتمل نتائج ما فعلت, هي
الآن زوجتي, ومسؤولية زواجي منها انا وحدي من سيحتملها.
هممتُ للخروج وفتحت الباب بقوة, فقال قبل ان أخرج:
صدقني لن أتركك تحتمل النتائج وحدك, فأنت لم تذنب
بمفردك.
لم أكترث وتابعتُ خروجي, وصلتُ لغرفتي واستلقيتُ
على سريري, أقبل عندي مراد يحمل حقيبته, قال:
ما بك يا رجل؟
استدرتُ نحوه قائلاً: آه يا مراد, لم يسمح لي ذلك
الحقيرُ بزيارة أهلي.
- ها! كيف ذلك؟ لا تقلها يا رجل!
صمتّ, تابع: ماذا تقول يا جلال؟ بهذه الحالة انا
أحلف لك أن هناك شيء ما بينك وبين ذلك الضابط, بما أن الوضع وصل لمنعك إستغلال
إجازتك لزيارة أهلك فهذا أمر زاد عن حده.
- وما الفائدة, من سيقف الضابط عند حده؟ من
سيحاسبه على ما يفعل؟ لا دليل أنه يفعل بي كل ما تراه, هو خبيث, يفعل كل شيء دون
مباشرة, وأخطائي معه تزداد ربما يستغلها لمعاقبتي في الزيارة.
- أيُ أخطاءٍ هذه يا رجل؟ وأيُ عقاب يمنعك لزيارة
أهلك, هذا حق لك ليس من حقه منعك, جلال, انا لا أفهم شيء, لماذا يفعل بك ذلك؟ هل
تعرف شيء؟
- لا تكترث.
بعد صمت قليل,قلت: ستذهب؟
- نعم, سأزور أهلي.
- موفقّ يا صديق, هيا الأهل بانتظارك.
أبتسم بشغف ولمعت عيناه, لفت نظري ذلك, قلت: ما بك
أنت؟ (غمزته) أهناك من ينتظرك أيضاً؟
ضحك, ثم قال: سأرى ميسون يا جلال, سأراها أخيراً.
- من هي؟
- خطيبتي, او.. هي ستصبح كذلك.
قمتُ وضربتُ على كتفه قائلاً: يا رجل, عيناك تقول
انا عاشق.
ضحك وضحكت, ثم نظر لي مودعاً وقال:
جلال, أتريد مني شيء قبل أن أذهب.
- لا يا عزيزي, أنطلق راشداً واستمتع مع الأهل,
ومع...
ضحك مجدداً, ثم عانقني وهمَ للذهاب, عدتُ لسريري,
واستلقيتُ مجدداً, إنتابني حزنٌ مزدوج, وحدتي بهذه الغرفة, كأنني في سجن, وبعدي
عنكِ وعن أهلي.
فكرتُ فيما لو أصلُ لكِ بأيِّ طريقة, على الأقل
لأقول لكِ أنني بخير, ولأطمئن على أمي, وأبي وجميلة, لأعرف أخباركم, ما هي حالتكِ,
وما هي أخباركِ؟
راودتني فكرة الهروب, لكن أبعادها سيئة, سأُسجن,
وحينها سأعيش أصعب من حالتي الآن, سيعذبني أكثر, وربما تقطع أخبارك أكثر, لا أعلم
ماذا يمكنه أن يفعل بكِ لينتقم من فعلتي, هو كالمجنون الذي ينتقم باتفه الأسباب,
كفى ما قلته له الآن حينما دخلتُ عنده, أشعر أنه سيردُ علي بانتقام أكبر.
آه, لكن رؤيتكِ تستحق مني أن أفعل أي شيء, مهما
كان, أنتِ وأمي, يا اله لا أصدق أنني أعجز عن رؤيتكم.
قمتُ من سريري و فتحتُ شباك الغرفة, متأملاً أسوار
المكان, ثم أخذتُ أتأملُ الشبان العسكريون يودعون بعضهم, ووقع نظري على مراد الذي
يسيرُ نحو الباب الرئيسي ليخرج, وبلحظة من التفكير السريع ناديته فوراً بصوتٍ
عالٍ.
استدار متفاجئاً, وحينما رفع رأسه اتجاه الشباك
ورآني, أشرتُ له بالانتظار, وذهبتُ له فوراً.
قال حين وصولي إليه: ما بك جلال؟
وقفتُ راكياً على ركبتيّ لاهثاً, ثم استقمتُ
قائلاً:
مراد, هل لك بخدمتي؟
- بالطبع, قل لي ماذا تريد وانا بالخدمة.
- أريد ان أعطيك عنوان أهلي, طمئنهم عني
وأخبرهم أني بخير.
- هذه فكرة رائعة جلال, سأفعل لا تقلق, ما
العنوان؟
أخبرته, ثم كررنا العناق وهمّ للذهاب, حتى ناديته
من جديد وقلت له:
مراد, إن سألوك لماذا لم أزرهم قل أي حجة مقنعة.
- حسناً لا تقلق.
- مراد, لا تُخطئ وتذكُر اسم الضابط او ما
بيني وبينه.
- وهل أعلم ما بينكم أساساً.
- سأخبرك لاحقاً, المهم أن تكن حذراً.
- إن شاء الله, توكل على الله ولا تقلق.
كان الضابط ينظر لنا من شباكه, يراني أحدث مراد,
ويحلل أسباب الهمسِ والحديث السر, رأيته دون أن أرفع نظري إليه, إنني فقط لاحظتُ
ستارة الشباك مفتوحة وطلته الواضحة, حتى أنه لم يعلم أنني رأيته.
لم أكترث له, ودخلتُ لغرفتي حيثُ بدأت إجازتي التي
مرت علي كأنها ألف سنة, كنتُ أقضيها بقراءة القرآن, والأدعية في جوفِ الليل,
والنوم, وأحياناً الحديثُ مع بعض الزملاء ممن بقوا, كان الخروج من المكان سهلاً,والهروب
كذلك, لكن العودة الجبرية له أصعب بكثير, والسجن المظلم كان منفّراً جداً, لم يكن
الضابط موجوداً تلك الفترة, الباب الرئيسي كان ممنوع من الفتح لمن بقوا, حتى انتهت
الإجازة, وعاد الزملاء عودة يائسه, بوداع أهلٍ من جديد, دون الإستطاعة من الهروب
او الرحيل.
أما انا, فكنتُ في إنتظار مراد الذي جعلني انتظاره
أحتمل عذاب الوحدة, وأتصنع الأمل بأخبار يُحضرها لي حتى وإن كانت صغيرة وعادية.
حال عودته, عانقني بقوة, ولم يطيلَ الأمر علي
كثيراً, قال لي أنه قد ذهب مرتان, وأن الجميع بخير وبشوق حار لي, قال لي أن أمي
كانت سعيدة بسماع أخباري, لكنها بأشد الحزن على منعي لزيارتها, وقال أن أبي كان
مستائاً وحزين, ولم يكن يتحدث كثيراً! وقال أيضاً ان جميلة ترسل لي الأشواق
والسلام, أما أنتِ, فقال أنكِ في المرة الأولى كنتِ تستمعين الى أخباري من مراد
بحرارة, وتتسائلين كثيراً عن أحوالي وصحتي, وطلبتِ من مراد أن يعاود زيارتكم مرة أخرى
قبل عودته للعسكرية.
قلت: ولماذا كانت تريدُ أن تزورهم مجدداً؟
صمت وابتسم, ثم أحضر من حقيبته رسالة وقال:
لتُحضِّر لكَ هذه.
أخذتها منه بسرعة, وهممتُ لفتحها, قال: حسناً
سأخرج لباقي الرفاق, خذ راحتك أنت.
- مراد.. أؤشكرك جداً.
ابتسم وهز رأسه, ثم خرج وتركني وحدي, فتحت الرسالة
التي علِقت رائحتكِ عليها, وبشغفٍ ملتهب, بدأتُ أقرأ:
" زوجي الحبيب..جلال
في البداية أريد أن أطمئنكَ عني وعن الجميع هنا,
جميعنا بخير ومشتاقون لك كثيراً, نعيشُ بحزن وفراغ لغيابك, الحياة بدونك تعيسة
جداً, وصورتكِ قبل رحيلك مازالت أمامي بكل تفاصيلها يا جلال, انا أتمزق ببعدك,
وددتُ أن أطمئنك أنني صابرة ومنتظرة, لكنني عجزتُ أن أخفي عنك أنني أرافق بذلك
الحزن والأسى, انا أختنق ببعدك, إختناق قاتل لم أشعر به من قبل, ولا أدري لماذا
وصل بي الحال الى هذا الحد.
لم أستوعب أنكَ مُنعتَ من الزيارة, الجميع آسى ذلك
وشعر بالحزن, ولكنني لم أكن مرتاحة لما سمعته من صديقك, لكنني بالحقيقة لم أصدق,
ولا أدري ما السبب الذي تخفيه, ولماذا تخفيه.
أريد ان أخبرك بأمر, أتمنى أن يبث فيكَ القوة
والصبر, سيصبحُ لدينا طفلاً يا جلال, بعد ما يقارب السبعة أشهر, وهذا الأمر الوحيد
الذي أراحني وثبت صبري وأسعدني, أتمنى أن تنتهي تجنيدك العسكريّ وتعد لنا لنبدأ
حياة سعيدة معاً.
إعتني بنفسك جلال, وكن قوياً, انا أدعو لكَ
دائماً, وأحلم بمجيئك كل لحظة..
أحبك كثيراً..
ياسمين. "
ما عدتُ اصدق, سأصبح أب؟! وياسمين, لفتاة الفاتنة
محبوبتي, ستصبح أُماً لطفلي.!
ما اكترثتُ لكل ما كُتب على قدر ألمي وحزني به,
فاقتني فرحة الخبر, لم أصدق, امتلئ فوهي بالضحك والفرح, ما فرح قلبي هكذا من مدة
حتى كدتُ أنسى كيف يفرح الأنسانُ من قلبه, دخل ياسر الغرفة, رآني أعانق الرسالة
وأبستم, قال مبستماً:
أدام الله فرحك يا أخي.
وضعتُ الرسالة على سريري, وأقبلت لياسر أعانقه
وأقول له:
سأصبحُ أباً يا ياسر, سأصبح أباً.
********
مساء تلك الليلة إحتفل زملائي بي وقضينا سهرة جميلة
جداً, ثم خرجنا للباحة برغبة الجميع, أراد مراد أن يدخن سيجارة, وأراد سعيد أن
يستنشق هواء السهر, والآخرون رافقونا, على الرغم من نسمات الهواء الباردة التي
تتقاطع, إلا أننا اصبحنا قليلي الإحساس بتقلبات الطقس, مضيتُ انا ومراد مدة مريرة
حينما وُكِلنا بالحراسة الليلية, فكنا أكثرهم جموداً بالأحاسيس.
هدفي للخروج معهم كان مختلف عنهم, كنتُ أريد أن
نصدر الضجيج ونضحك بأصواتٍ عالية, أريد أن أُظهر فرحتي وسروري بكل ما أستطيع.
خرج لنا أحد المدربين, صرخ قائلاً: ماذا تفعلون هنا؟
هيا للنوم غداً سنعود للتدريب.
ياسر ألانه بالحديث وقدم له مراد سيجارة, حتى أن
المدرب شاركنا السهر, وحينما همّ الضابط وخرج لنا لسماع أصواتنا, حققتُ هدف خروجي
أخيراً.
أقبل عندنا حيث وقف الجميع وأطفأوا سيجاراتهم, قال:
ماذا تفعلون هنا؟
المدرب: سيدي لقد خرجتُ لهم, وهم ينهون إجازتهم بهذه
السهرة.
صرخ: الإجازة انتهت لا داعي للسهر, فلينصرف
الجميع.
وهمّ الجميع للدخول حيثُ ابتسمتُ ابتسامة أشبه
بالسخرية, قلتُ مسرعاً حيثُ توقف الجميع عن الدخولِ وأنصت:
سيدي الضابط, نحن نحتفل لا أكثر.
ضحك ساخراً بدون صوت, قال:
تحتفلون؟! بماذا يا ترى؟
صمت الجميع, حيثُ انتظرتُ أن يجيب أحد منهم, نظروا
إليّ في انتظار الإجابة, ونظر لي الضابط متعجباً مرتبكاً من جوابٍ قد لا يعجبه,
فالأمر أشبه له بأنه يخصني لنظرة الجميع لي, ابتسمت مجدداً وقلت:
سأصبح أباً.
تضخمت عيناه, وفتح فمه قليلاً, وأخذت نظراته تتجمد
عليّ,ثم أخذ ينقلها في كل الإتجاهات, الكل كان ينظر له, يفسر ردود فعله, حتى قال بهدوء:
إنصرفوا للنوم.
الجميع دخل, إلا أنني بقيتُ واقفاً مكاني, استدار
مراد وتعجب من وقوفي, وقف لحظات ينظر إلي من بعيد حيث دخل الباقي, ثم دخل ولم يطيل
وقوفه, نظر لي الضابط نظرات غضب محتقن, قال:
لماذا لم تنصرف؟
- ظننتك تريد أن تقول لي شيئاً؟
- لا, إنصرف.
ابتسمتُ ساخراً وقلت:
حينما تكون في موضع قوة وإنتصار تتفنن في استفزازي
وتحقيري وتهديدي, والآن عرفتُ أنك في مواضع الضعف والإنهزام لا تجيد فعل شيء.
لم ألبث إنتهاء حديثي حتى صفعني على وجهي بقوة,
جفّ حلقي ومُسِحت ملامحي, دخلتُ فوراً وكنتُ متخبطاً, صحيحٌ أنها إهانة لا مجال,
لكنني حسمتُ أمري أنني أهنته أكثر, وإلا, لما فعلها بتلك القوة.!
سألني مراد حين دخلت عن سبب وقوفي معه قبل الدخول,
وما الذي دار بيننا من حديث, لكنني كنتُ متوتراً منفعلاً أنهيتُ سؤاله بتأجيل
الإجابة وأقبلت للنوم حيثُ مضيت ليلي في تفكير عميق.
*******
لقد عبرتُ الحواجز فوق جسر الحب والرجولة, وظننتُ
نفسي بطلاً, إلا أن الحقيقة أن الحياة تريد أن تأخذ الكثير منا, حتى تنعتنا
أبطالاً او حتى رجال.
فما كانت البطولة يوماً إلا بصنع الرجولة.
في صباح اليوم التالي, فتحتُ عيناي لأرى مراد يجلس
مقابلي على سريره ينظرُ لي, جلستُ على السرير وجمعتُ قواي بعد نومٍ متقطع غير
مريح, قلت:
ما بك؟
صمت ولم يجيب, تنهد وأهبني نظراتُ عتاب وحزن,
فقلت:
ما بك مراد؟
قال وقد تنهد مجدداً: هذا سؤالي إليك, فانا من
يريد معرفة ما بك؟
قمتُ من سريري متوجهاً لحقيبتي حيث ملابس التدريب
قائلاً:
يا رجل, ما بي انا, كل الأمور بخير.
- لماذا تخفي سرك عني؟ أتظنني لا أعرف ما
يدور حولي, إنني مبصر بكل ما يجري لكنني أنتظر أن تقول لي بنفسك.
- مراد, لا شيء لأقوله, صدقني.
- اذاً, فلن يهمك ما كنتُ سأقوله لك الآن.
- لماذا؟ قل مراد.
- لن أقل شيء.
أقبلت للجلوسِ على سريري مقابله, قلت:
مراد, قل, تالله لا تخفي عني شيء.
- لكنك تخفي جلال.
- لن أخفي عنك, سأقول لك, أعدك.
- جلال, لقد خرجتُ للباحة فجر اليوم, كنتُ قد
صليت ولم أتمكن من النوم مجدداً, خرجتُ لشرب سيجارة, ولفت نظري عبر الشباك جلوس
الضابط في مكتبه يتحدث مع أحد المتدربين.
صمتُّ وذهبتُ في تفكير وتحليل معقد, تابع:
ما الذي يجعله في المكتب في وقت كهذا؟ لقد حاولت
إخفاء نفسي لألا يراني, إنصرف المتدرب من عنده بعد عشرة دقائق تقريباً, ثم استمر هو
في الجلوس سارحاً, وما لفت نظري بشدة حين وقف على شباكه وهو يحمل بارود تدريب,
ويحسسُ عليها مبتسماً.
تابعتُ صمتي, وذهبت في تفكير متعمق, متعدد الجوانب
والإحتمالات, فكرتُ في قساوته, في حقد رجلٍ خانته ابنته من أجل رجلٍ آخر, بل
ومن أجل مسلم, وها هو طفل مسلم يعيش في أحشاء ابنته المسيحية, فبماذا يفكر يا ترى؟
ذهبتُ للماضي لأتذكر أن ياسمين كانت تحدثني على الهاتف
في فترات النهار, هاربة من مراقبة أمها, وفي الليل, يأتي والدها فلا تتمكن من
الحديث معي مطلقاً.
نعم لقد كان يعود للبيتِ مسائاً, فلماذا ينامُ في
المعسكر؟ لماذا يسهر حتى الفجر؟
قُطعت أفكاري بتساؤل مراد عن ما يدور في بالي,
أجبت:
مراد, هذا الرجل يحمل في باطنه أهدافاً خبيثة.
- جلال, ما الذي بينك وبين هذا الرجل.
- هو والد زوجتي.
صرخ: ماذا؟
- والد زوجتي المسيحية, التي تزوجتها رغماً
عنه, تبرأ منها وظننتُ نفسي فزتُ بها وانتصرت, ما كنتُ أدري أن القدر سيجمعني به
ليتلذذ بتعذيبي وانتقامه.
- كل هذا كان تخطيطه اذاً؟
- لا, ليس تخطيطه, العسكرية كانت مقررة لي
منذ سنين, لكنني كنتُ أؤجل بسبب الدراسة, شاء القدر أن يخيرني يا مراد, فإما عسكرية
طبيعية ولكن دون ياسمين, وإما عسكرية مُعذّبة بفوز ياسمين.
- تحبها كثيراً؟
- الى حد أنني أرى أن تعذيبي هذا هو لقاء
فوزي بها, ويجدر علي أن اتحمله مهما كان.
- لا أريد أن أشوش افكارك وبالك, لكنني لا
أراه تعذيباً فحسب.
- وإنما؟
- ليلة البارحة جعلتني أراه انتقاماً حاسماً.
صمتّْ, وصمتَ مراد, أنهينا الحديث هنا و ارتدينا
ملابس التدريب ثم خرجنا معاً.
********
نادى الضابط بنا:
اليوم, أنتم قضيتم فترة جيدة في التدريب, إقتربت
على أن تكون نصف سنة, آمل أن تمر السنة بسرعة وسلام.
يقول كلاماً معسولاً ليبني طمئنينة بقلوبهم,
ليُشعرهم أنهم ها هنا للتدريب, ليقضوا مدة ميسورة ومن ثم العودة للديار.
كان يستثنيني, ينفي مني العودة, وينفي مني الراحة
والخلاص, ولا أدري ماذا كان ينفي مني أيضاً.!
تابع: اليوم سنبدأ بالتدريب باستخدام السلاح, مرحلة
جديدة لكم, كلٌ سيكون له سلاحه, وسيكون التدريب على أفواج, والآن, هيا فليأخذ كلٌ
مكانه.
إنطلق الجميع, حيثُ أخذ مراد ينظرُ إلي, يرسل في
نظراته مشاركة تفسير ما يدور في بالي, انا أيقن أنه يخطط لشيءٍ ما, لم أكد أعرف ما
هو, وربما استبعدتُ ما يدور في بالي.
إنتهى يومنا بتدريب مبدئي على طريقة الإمساك
بالسلاح, كيفية الوقوف, كيفية التصويب, لكننا لم نركز اليوم كثيراً على التصويب,
تأجل ذلك ليومِ غد.
دخلنا الغرفة واستلقى كل منا على سريره, قال ياسر
ضاحكاً:
شباب, هل رأيتم سعيد وهو يمسك بسلاحه؟
ضحك مراد, وقال سعيد: ياسر, أصمت.
رفع ياسر صوت ضحكته, قال:
قسماً كان قابضاً يديه عليه كأنه ابنه, وكان يرفعه
حتى جبينه كلما صوّب.
إرتفع صوت ضحكتنا جميعاً, قلت:
ياسر, كفاكَ وإلا لن تنم الليلة مع سعيد بغرفةٍ
واحدة.
مراد: سيلقيكَ خارجاً في الصقيع.
إرتفع صوتنا مجدداً, قال سعيد:
تتكلمون وكأنكم احترفتم إمساك السلاح والتصويب
فيه, ياسر أنت خاصة لا تنطق بحرف لأنك لم تكن أفضل.
ضحكنا مجدداً, قال ياسر: حسناً لا تغضب سأصمت.
مراد: السلاح هذا, كفتاة رقيقة, يجب أن تحترف
التعامل معها لتكون مصوب ماهر, وتصبح بين يديك ناعمة سهلة.
قلت: آآه, خذوا الحكمة من فوه الشاعر مراد.
سعيد: شاعر؟ قل عاشق, أنظروا تالله كيف خُفضت نبرة
صوته ورُقت.
ضحكنا, قال مراد: ناموا هيا, لا يليق بكم إلا الغلاظة
والتفاهة.
ضحكنا بصوتٍ عال, قال ياسر وهو يشهق ضاحكاً: كل
هذا الأصوات منا ونبيل غارق في النوم, يبدو أنه كان متعباً للغاية.
ثم ذهبنا في النومِ جميعاً, غرقتُ في نوم بعد يوم
متعب طويل, حتى أقبل مراد قبل طلوع الشمس بفترة يوقظني بعنف, انتزعتُ نومي وقمتُ
منهكاً فازع, قال لاهثاً:
مصيبة يا جلال.
- ما بك؟
- رآني, لقد رآني الضابط.
- أهدأ, خذ نفساً وتابع.
- جلال, لقد خرجتُ كليلة البارحة, في الحقيقة
كنتُ أريد أن أراقب تصرفاته, كان يتحدث من أحد المتدربين ويعطيه سلاح, أقتربتُ
عَلّي أتوصل لفهم, لكنه رآني بشكل مفاجئ, إستدار نحو الشباك فجأة ورآني, قدحني
بنظراته, وضعت السيجارة على فمي فوراً عله يفهم أنني خارجاً من أجلها, لكنني توترت
ثم أطفئتها ودخلتُ فوراً.
صمتّ, ولم أعرف إجابة او إضافة لما قاله مراد, قلت
بصوتٍ خافت:
ماذا يخطط هذا الرجل!؟
- جلال, يجب أن ترحل.
- أرحل!
- سنة كاملة من التعذيب, من التلذذ بهلاكك,
ستليها سنتين, ماذا سيحصل بهما الله أعلم, هذا ليس مراهق, وليس شاباً طائش ليعذبك
ثم يتركك ترحل لتعيش بسلام مع ابنته, هذا رجل ذكي, لا أظنه يخطط لعودتك جلال, لا
أظن ذلك مطلقاً.
صمتنا, إنتظر أن أشارك بقول شيء, ثم تابع:
انا لا أعرف هذا الرجل كيف يفكر, كيف يتصرف, لكن
صمتك يعنيلي أنك لا تستبعد أمراً كهذا, جلال, من يملك سلطة تعذيبك دون وجه حق,
يملك سلطه قتلك بحجه عدم القصد.
نظرتُ له مندهشاً, لم أتوقع أن يصرح مباشرة بذلك,
مراد يتخذ الموضوع بجدية انا أريد إستبعادها, لكنه يقول الصواب, ويجب أن أتخذ
الموضوع من الجانب الواقعي, حان الوقت لشجاعة الرجل أن تخرج مني, فكرتُ كثيراً,
خشيتُ تنفيذ فكرته مسرعاً, خاصة بعد أن رأى مراد, لكنني لم أكد أخاف, ولم أكد
أضعف, سنتين تنتظرني, وربما لا يريد منها أن تنتظرني, لكنني لا أفكر بنفسي
وبحياتي, بل أفكر بإبني, بكِ, ليس بعد أن جردتكِ من كل شيء أستسلم للموتِ تاركاً
معركتي التي انتصرت بها خلفي.
هل حقاً عاش فترة زواجنا يخطط ويفكر بنا؟ ينتظر
فرصته؟ رجل مثله لن يتبرأ وينسى, بل سيفعل الأكثر من ذلك بكثير, من كنا نحن لنجبره
ونخرج عن طوعه وأمره, هذا هو تفكيره الآن.
الهروب, هو أفضل ما يمكن أن أفكر به, ليس صعباً أن
أغادر المكان بمساعدة زملائي, إن الصعوبة إن سُجنت بحال قُبض علي, والمدة التي
سأقضيها بالسجن, وربما إن حاول قتلي هناك, او بعد ذلك, لكن؟ أين سأذهب؟ وكيف
سأعيشُ هارباً؟ وكيف سأبقى هارباً والى متى؟ إنه ليس الحل المناسب, لا لن استطع أن
أفعلها.
مراد: ماذا قررت جلال؟
- مراد, مستحيل, إن سُجنت سيقتلني بالسجن.
- وإن بقيت سيقتلك هنا, إسمعني, الأمر ليس هبائاً,
أهرب وقدم بلاغاً.
ضحكت ساخراً: بلاغ؟ الى من؟ إن كان فعلاً يريد أن
يقتلني, صدقني أن بلاغي لن يفيد, منصبه عالي وذو مكانة, يا مراد حتى وإن أفاد ذلك
إحتمالية النجاح ليست مضمونة, انا لا أريد أن أفكر عبثاً, ومن يعلم بمخططاته الخفية
أصلاً, حتى تعذيبي كان بثنايا التدريب, أيُحاسَبُ ضابطاً على إرهاق متدرب؟ هو يعلم
جيداً كيف يخطط بالخفى.
- منصبه عالي, لكن منصبه لن يُعيدَ ابنته إليه,
لذلك قرر الإنتقام بأسلوب آخر, أكثر حقارة وقسوة.
- لا أعلم ماذا سأفعل, وهل فعلاً يريد قتلي؟
أيُعقل؟
صمت مراد, وأرسل لي نظرة سخرية من سؤالي, سخرتُ من
نفسي, مراد بات أمامي يفهم ويعرف نفسية هذا الضابط.
قلت: من الغباء أن أبقى هنا وانا أصبحتُ أعلم أهدافه,
أليس كذلك؟
ضاحكاً بسخرية: ضابط عسكري, عصته ابنته وتزوجت من
مسلم رغماً عنه, وهو يرى أنك المذنب الحقيقي, لأنك جردتها منه ومن عائلتها, موقفه
ومنظره أمام معارفه وعائلته وخاصة ذو المناصب أصبح سيئاً ومخجلاً, لا بد الآن أن
يُعيد كرامته لنفسه.
- مراد, سأسِّرُ لك سراً, يمكنني الهروب خارج
البلد.
- حقاً؟ كيف؟
- خالي يستطيع فعل ذلك, أفكر فيما لو هربت,
لا أعلم الى متى سأبقى كذلك, على الأقل مؤقتاً حتى أجد حلاً.
- تفكير سليم, الآن لا تفكر بشيء سوى خروجك
من البلد, هروباً من الموت الذي هو أعظم ما يجب أن نفكر فيه, ووقتها تفكر بحل.
- يُيسرها الله يا مراد, لكن, هل حل الهروب
أمر صحيح؟
- ما بك يا رجل؟ إثبت ألم تقتنع بهول الموضوع بعد؟
- بلا, لكنني لا أشعر براحة وطمئنينة لذلك.
- جلال, خذ قرارك الآن, إن أردت الهروب فالليلة, قبل
طلوع الشمس.
صمتّ, سرحتُ قليلاً قابضاً يديّ على فمي, قلت:
الليلة مراد؟
-نعم, أخشى أن ينفذ ما يدور في رأسه صباح الغد,
بما أنه رآني لن يؤجل أهدافه, مهما أخذتَ حذرك فأنت في دائرة خطر كبيرة.
- لا أعلم يا مراد ماذا يريد أن يفعل, لكن الأمر
مخيف, غير مطمئن. وبعد شهيق: لكنني سأذهب.
قمتُ باتجاه الشباك, وتابعت: نعم..سأذهب.
********
إن الضعف ليس من سمات الصواب..
بمشاركة سعيد ومراد وياسر, وأحد الحراس البسطاء
الذي أهبته ساعتي و المال الذي كان معي ليساعدني, تمكنتُ من الهروب عند شقوق
الضوء, أعطاني الحارس هاتف محمول دفعتُ له سعره من ما تبقى معي من مال و بمساعدة
مراد لي مادياً, اتصلتُ بخالي واتفقتُ على مجيئه بوقت محدد يناسب وقت هروبي, ياسر
اصطحب الحارس الآخر لدقائق بحجة اصطنعها له, تاركاً الحارس الذي اتفقتُ معه واقفاً
أمام الباب الخلفي, سعيد كان قريباً من الباحة الرئيسية حيثُ المبنى الذي فيه مكتب
الضابط, يراقب الوضع عن بعد, ساعدني مراد والحارس لأخرج عبر الباب الخلفي بسرعة
دون ملاحظه أحد, ودعتُ مراد غارقاً النظر في عينيّ صديقي الأول في العسكرية, قلت له:
وداعاً صديقي.
أمسك بذراعي: وداعاً جلال, قلبي معك.
عانقته: سأطمئن عليك, ونلتقي ذات يوم من جديد,
خارج هذه الأسوار.
شدّ في العناق: كن يقظاً وحاول الخروج من البلاد
بسرعة, سنلتقي أعدك.
نظرتُ إليه وابتسمتُ خلف ستار من الحزن, ثم ربّت على
كتفي وقال:
إ عتني بنفسك, الله معكَ يا صديقي.
ثم انطلقتُ مسرعاً الى خالي الذي كان ينتظرني
بسيارته على بعد أمتار من المكان.
كان الهروب أسهل مما توقعت, لكنني كنتُ راجفاً,
خائفاً من كشفي وسجني وموتي.
لم يتوقع الضابط خطوة كهذه, وربما رؤيته لمراد لم
تُخشيه كثيراً, ولم يتوقع منها أمراً كهذا, ربما وضع في إعتباره ظنوني وشكوكي نحوه,
وأخذُ حذري منه, لكن هذا لم يكن يهمه ويعيقه, الأمر الوحيد الذي لم يلبث أن يتوقعه
هو أن تشرق الشمس على عسكرية خالية من جلال بهذه السرعة, وبعد أن اقترب موعد هدفه
معي.
********
كل شيء كان يجري بسرعة, لكن ببطئ شديد بالنسبة لي,
في صباح اليوم التالي اتصلتُ بهاتف البيت, أجابت أمي, وحينما سمعت صوتي أخذت تصرخ
فرحاً وبدأت أسمع أصواتٌ مختلطة من جملية ومنكِ حينما أحطتم أمي وهي تحادثني, قلت:
أمي, قولي لهم أن يهدئوا لأتمكن من الحديث.
صرخت: أصمتوا أريد أن أسمع.. ها عزيزي, قل لي كيف
أنت؟ وكيف حالك؟
- بخير عزيزتي, كل الأمور بخير.
- أشتقتُ لك كثيراً والكل هنا بانتظارك يا
حبيبي, متى ستعود لنا؟
- أمي.. لقد هربت.
صرخت: هربت!
تجسدت بسرعة صورتكِ المتفاجئة أمامي يا ياسمين,
حينما صرخت أمي مكررة ما قلت وأنتِ بجانبها, تُرى ما الذي دار في بالك حينها, ويا
لحسرتي إن فكرتِ بأنني لم أعد الرجل الذي كنتِ تعرفيه قديماً.
أجبت: نعم أمي, لقد وقعتُ في مشاكل كثيرة, ولا
أملك حلاً إلا الهروب.
- ما هي المشاكل هذه؟ ومن أين تتحدث الآن؟
- انا عند خالي, وهو سيرتب الأمور لأخرج من
البلاد غداً, أمي, صدقيني الأمر سيء وصعب جداً.
- ما الذي حدث معك يا بني؟ ستخرج من البلاد!
لا أصدق, ماذا جرى؟!
- الضابط الذي يشرف علينا يا أمي, يريدُ أن
يتخلص مني بأي طريقة.
- يا لمصيبتي, لماذا يا بني؟ ماذا يريد منك هذا؟!
- مشاكل يا أمي, مشاكل ومصالح وأمور كثيرة
معقدة أجتمعت معاً, ألا تتذكرين كيف منعني زيارتكم خلال الإجازة, الأمر معقد
وطويل, أردتُ أن أطمئنكم, أمي, لا تقلقي سأهاتف أبي لاحقاً وأشرح له الموضوع,
أخبري ياسمين بذلك.
- حسناً يا عزيزي, سأدعو لك الله أن ييسر لك
أمرك, قل لخالك أن يعتني بخروجك سالماً, واتصل بي حال وصولك, سأقول لأبيك وسنأتي
لك قريباً.
- لا تقلقي عزيزتي, الأمور ستكن على ما يرام,
أمي ياسمين جوارك؟
- نعم ها هي تريد أن تحادثك.
ياسمين: آلو..
آه من صوتكِ, آه من أنوثتك المتفجرة بكل حرف
تنطقينه, كم انا مشتاقٌ لأن أسمعكِ, كم أشتقتُ لصوتكِ, أصابتني رجفاتٌ بكل جسدي
حال سماع صوتكِ يا ياسمين..
أردفت: حبيبتي.
- أشتقتُ لك جلال.
- بقدر شوقي يا عزيزتي, كيف أنتِ؟ وكيف
طفلنا؟
ضحكت: مازال صغيراً جداً, أسأل الرب أن تكن بيننا
وقت ولادته.
- إن شاء الله عزيزتي.
- جلال.. لماذا هربت؟
- لقد أخبرتُ امي ألم تسمعي الحديث؟
- بلا, ولكن ما الذي حدث؟
- مشاكل ومشاجرات كبيرة مع الضابط, أمور
كبيرة سأشرح لكِ لاحقاً.
- مشاكل بينك وبين ضابطك العسكري تدفعك للهروب,
وخارج الوطن, لا أظن أن هذا يُصدق.
- لا تعرفين شيء, مشاكل كثيرة, وأمور مستعصية.
- جلال, ربما نسيتُ أنك تحادثني انا, ياسمين.
- آه ياسمين كفاكِ صدقيني..
قاطعتِ القول: جلال, منذ مُنعتَ عن زيارتنا في
الإجازة وأمورٌ مجهولة تدور حولي, ما هذا الهراء, لا أحد يُمنع عن زيارة أهله في
إجازة العسكرية, سنة كاملة مضت ولم نراكَ فيها, لم نسمع صوتك حتى, لا نعرف أخبارك ولا
نجيدُ الوصول إليك, والآن, تهرب من عسكريتك بعد سنة من الصبر والإنتظار, وتتحجج
بمشاكل! أتسخر انت؟
- أنتِ محقه, لأنك تتحدثين دون علم بشيء, أنت
تقولين ما ترينه بسطحية ولا تعلمين عمق الموضوع, إن لم يكن ما في الأمر شيئاً
كبيراً وعظيم فلماذا هربتُ اذاً؟
- ما الحل الآن؟ ستبقى هارباً؟
- هربتِ من أجلي سابقاً, فلتهربي من أجلي مرة
أخرى وتسافري لنعيشُ معاً.
- أمجنون أنت؟ هذا حلك جلال؟ ما بك؟ بدأت
أشعر أنك أصبحت رجلاً آخر لا أعرفه.
- ياسمين, إن عدتُ سأموت, سأُقتل.
- تُقتل؟ لماذا؟ ماذا فعلت ليقتلك؟
لم أجيب, إنني فقط قلتها في سري, أنني أحببتك, وهذا
هو ما فعلتُ يا ياسمين, تابعتِ:
يا خسارتي فيك يا جلال.
- ياسمين, لا تصدقي أوهامك, انا لم افعل شيء,
ياسمين كفاكِ تعذيباً بي, والله لم أُخطأ, ولم أُذنب, الأمور معقدة.
- حسناً, إذاً تريدني أن آتي إليك, بكل بساطة,
لا جلال, لن أفعلها.
- يا الهي, ياسمين أرجوكِ خففي من حدة النقاش
انا مرهق نفسياً الى حد لا يمكنكِ تصورها.
انتابكِ حزن بان في صوتك, قلتِ: حسناً جلال, أعتني
بنفسك, وهاتفني حال وصولك, لا تقطع اتصالاتك عني.
- حسناً عزيزتي, وأنتِ أعتني بنفسكِ جيداً,
سأهاتفك.
********
مرهقة هي الحياة, لا تُبقي الأيام على حالها, كنتُ
أعيشُ في سلام, همي الوحيد هو الفتاة التي عشقتها, تخرجتُ بنجاح, وفتحتُ مكتب هندسي
ناجح, رجل عصامي, أردتُ أن أتزوج وأستقر بفتاة أحلامي, بعيداً عن طيش الشباب, لم
أكن أحلم بأكثر مما كنتُ أعيش فيه, ولكن, ربما الحياة تسلب منكَ الكثير, حينما
تعطيك الكثير, وأنتِ, كنت أكثر شيء من كل شيء.
بدأت أتخيل شكلكِ الجديد كيف سيصبح, الذي راق في
بالي, شكل الفتاة الفاتنة التي ببالي بصورة حمل, كم ضحكتُ سعيداً, وكم أتمنى أن
أراكِ يوم ولادتك, وأشارككِ فرحتنا الأولى, أسأل الله أن لا يحرمني من هذه اللحظة.
جلستُ في حديقة المنزل, حيثُ أقبل عندي خالي, وجلس
جواري, رآني سارحاً أتأمل القمر, غارقاً في تشويش واضح بين ما يجري من حولي, كنتُ
قد أخبرته بالحقيقة كاملة, حول أبيكِ وكل ما كان يجري.
أفكر بماذا حدث بعد هروبي من هناك؟ وماذا كانت
ردود فعل الضابط, وهل يا تُرى يبحث عني الآن؟
قال خالي: الأمور كلها على ما يرام, غداً سأهرّبك
خارجاً في الصباح الباكر.
- هل تعتقد ان يُقبض علي قبل خروجي.
- لا لا, لن يتوقع خروجك من البلد بهذه السرعة,
بكل الأحوال انا لن أدعك تخرج بشكل قانوني لألا يتمكنوا من الوصول إليك, ومادام
والد زوجتك هدف للتخلص منك, فيجب أن نعتني بأن لا يعرف أي شيء عن خروجك من البلاد,
ولا حتى الى أين ذهبت.
تنهدت, تابع: ستفرج يا جلال, كن رجلاً قوياً.
أردفتُ مقطعاً الكلام: رجلاً..قوياً..
- والله لا أدري ما الذي دفعك لكل ذلك,
أصريّت على الزواج من هذه الفتاة, ألن تكن تعرف أن أباها بهذه الحقارة والقوة.
- خالي, ضع ياسمين جانباً, ولا تعتب, انا
لستُ نادماً, وانا مسؤول عن كل شيء.
********
وعدتكِ أن أكون الرجل الأقوى دائماً, أنتِ تحبين
صفات الرجولة, تحبين سعي أحدهم من أجل من يحب, وصدقُ العواطف في العلاقات, تكرهين
الخيانة والخذلان الى حد أنكِ ترينَ الموت أفضل منهما.
ما كنتُ كذلك لكِ يوماً, وما كنتُ كذلك حتى
بدونكِ, لكنكِ علمتني أن الحياة لا تخلو من امرأة مثلكِ, تدفع الرجل لأن يكون
مثالياً مع زوجته, ويستمر في ثوران حبها مدى الحياة, حتى بتُ أيقن أنني رجلٌ صالح
لذلك اختاركِ القدرُ لي, كما يختارُ للآخرين ما يناسبهم, حتى وإن جهلنا حكمته في
الإختيار أحياناً!.
ها انا اليومُ يا ياسمين, أرمي ذكرياتِ الوطن خلفي
وأرحل كالمهاجرين قسراً, أتركُ الوطنُ وكطفلٌ صغير لا يبصر مستقبله ولا يحسن
التصرف, حلُ الرحيلِ أبصرني للنجاة ولكن حلول العودة والعيشِ بسلام أعمتني تماماً.
تمضي بي الطريق الى هناك, وانا أعدُ الأمتار
والمسافات, كم هي بعيدة, وكم أنتِ قريبة
مني رغم المسافات هذه, ودتُ فيما لو استطعتُ أن أرى عينيكِ ولو للحظة, لو أنني
تمكنتُ من توديعكِ الأخير, او حتى ملامسة كفتا أمي وتقبيلهما, لكنهم جميعاً
مراقَبون بالتأكيد, لا يمكنهم حتى الإقتراب مني, ووقاية لي لم أتمكن من رؤتيهم,
سماع صوتهم قبل السفر على الهاتف لم يكن كافياً لي, ولا حتى لهم.
كنتُ أقبِضُ على السلسلة الذهبية التي أعطيتني إياها,
كانت موضوعة في عمق حقيبتي العسكرية داخل منديل ملتف حولها, فاجئتني حينما رأيتها
وانا أرتب حقيبتي من جديد للسفر, كأنما كنتُ قد نسيتها تماماً خلال سنة العسكرية,
أراني قد وضعتُكِ أمامي بكل مكان وبكل موقف, ولم أكد أنساكِ حتى للحظة, إلا أنني
نسيتُ السلسلة تماماً, فيحدث أن تنسى شيئاً من أجل أن تتذكر شيئاً آخر, وكلاهم
يعودُ لشخصٍ واحد.
أرفع السلسلة الى مستوى نظري, وأتأملها بعمق, لا
أنسى ما قلته لي حينما أعطيتني إياها, لأنني لا أنسى تفاصيل كلامك ومعانيكِ البعيدة,
ولعل تركيزي على ذلك هو ما أنساني الأشياءُ الملموسة, كتلك السلسلة.
لقد جمعتي الصليب والمصحف في سلسلة واحدة, كالشعار
المصغر لحدثِ جمعي بكِ ببيتٍ واحد.
تذكرتُ قولك: هذا الصليب إشتريته لأثبت للرب أنني
مازلتُ مسيحية, أما القرآن, فلقد إشتريته لأثبت لنفسي أنني تزوجتُ مسلماً.
كم كانت عميقة تلك الكلمات, وتحمل مشاعر جمّة, لا
أجيد التصريح بما أشعر تجاهها, أنني فقط أشعر بكم العمق التي تحملها.
********
وصلتُ الى هناكَ حاملاً حقيبتي الصغيرة, وحاملاً
في حوذتي همومي الكبيرة, أعطاني خالي مبلغ من المال يكفي لإستئجار مسكن مؤقت,
ولمصاريف يومية, اعتمدتُ البحثَ عن العمل دون تأجيل, لأن المال سينتهي لا محالة,
ولأنني بحاجة له مهما كان, ما كان يدور في بالي خلال اليومين الأولين في منفاي هو
أن الحل الأقربُ لي أن أصطحب ياسمين الى هنا لنعيشَ حياتنا معاً, ونرضَ بالواقع
المفروض, ولكن خالي اتصل بي وقال لي أن الضابط أرسل رجالاً لمراقبته, ومراقبة أهلي
أيضاً, دون وجه مباشر, هو تمكن من معرفة ذلك بطرقه, وأخبر أهلي الذين يجهلون الأمر
بذلك, وقال لي أن الموضوع ما عاد قضية هروب متدرب عسكري من العسكرية, بل بات قضية
بيني وبين الضابط, خاصة بعد أن أيقن أن هروبي كان مقابل اكتشافي أهدافه الخبيثة.
فأجلتُ فكرة إصطحابِ ياسمين الى هنا بالوقت
الحالي, الى حين أن يستسلم ذلك الضابط من إيجادي, لكن المدة التي أقضيتها هنا
أصبحت تخنقني, والأيام تمر كأنها تقف عند كل ساعة ألف سنة, أسبوعٌ واحدٌ فقط كان
يرهقني حد الموت, بدأت بالبحث عن العمل لكن دون جدوى, ولا من شهادة مصطحبة معي, هاتفتكِ
خلال أسبوعي ما يقارب الثمانِ مرات, في كل مرة كنا نكرر الحديثُ ذاته, السؤال عن
الحال والأوضاع, في كل اتصال أود قبله أن أرمي إليكِ كل الأختناق والهموم التي
أحمل, لكن سماعَ صوتكِ ينهيني عن كل حديث آخر, سوى أن أسمتر في سماعه فحسب.
********
آه لو تطول الحياة علينا لسنين, حتى أعيش معكِ
أكثر, وأعوض حرماني منكِ, بعد أن عدتُ كالغريب الذي يعجز عن الوصول إليكِ.
بعد شهر, أمضيتُ وقتي بالبحث عن العمل, بشكل
متقطع, بين يومِ أبحثُ فيه ويوم أقضيه في المسكن في نوم طويل, لقد وجدتُ عملاً في
بعض الأماكن لكنني رفضت موضعي بها, كنادل في مطعم, او في نادي ليلي, او منظف
أطباق, او عامل نظافة.
كنتُ أظن أنني لن أقبل بعملٍ إلا بما يتناسب معي,
كمهندس, او حتى عمل آخر, لعدم توفر شهادتي معي, لكن بشرط أن يكون ذي قيمة, وما
كنتُ إلا كالولدِ المراهق, الذي ينتظر من الأشياء أن تأتيني, وعلى الهيئة التي
أريدها انا.
يئستُ كثيراً, وأيقنتُ في لحظة صحو أنني لن أعمل
مديراً ولا رئيساً هنا, ولن أكون مهندساً ولن أفتح مكتباً, ربما لو أنني بعتُ
مكتبي ذلك لأشتري بسعره مكتب هنا حل معقول, لكن التفكير بأن أتخلى عن المكتب الذي
فتحه لي والدي بعد أن جمّع مبلغه لسنين قبل تخرجي, واستقراري هنا رسمياً بعد فتح
المكتب, وعملي في بلاد غريبة, ربما لا ينجح مجالي فيها, أمور ضاق صدري بها, وضاقت
بي نفسي للتفكير بها أيضاً.
اتصلتُ بأبي, وقال لي أن أعمل بما وجدت, دون أن
أكترث لقيمة العمل, ثم هاتفتُ خالي الذي حثني على ذلك أيضاً, وواساني بحديثه عن
ماضيه, وكيف كان يعمل موظف عادي براتب دنيّ, حتى تمكن من الوصول الى منصب جيد وبنى
بيتاً فخماً وتزوج من المرأة التي اختارها قلبه وأحبها كثيراً, وفنى عليه العمر
بعد وفاتها ليعيشَ وحيداً ولكن دون أن ييأس وينهي آماله عندها, هو فقط عاهد نفسه
أن لا يتزوج بعدها, فسخر من حالتي التي حدثته عنها, وأضحكني بممانعته عن إرسال
المزيد من المال إلي, لأسعى للعمل فورياً, سألته فيما لو اسطتيع أن اصطحب ياسمين
حالياً لكنه قال أن الموضوع بحاجة للمزيد من الوقت, فكلما طالت مدة الموضوع هذا,
كانت النتائج أقرب للنجاح.
*******
اشتغلتُ نادلاً في مطعم بفندق في المدينة, لم يرق
لي عملي مطلقاً حتى أنني قررتُ تركه بعد يومي الأول, إلا أنني امتنعتُ للحاجة
والضرورة, كان العمل غريباً علي وعلى ما تعودتُ عليه, كان مسائياً, يبدأ السادسة
مسائاً وينتهي الثالثة قبل طلوع الشمس, طويل ومتعب وغير مريح, لكنني لم أتمكن من
الإمتناع عنه خاصة وأن الله منّ علي بأن يكون في فندق جيد, وعلى الأقل بتناوب مع
النادلين الآخرين.
اتصلتُ بكِ حينما استيقظتُ من نومي بعد إنهاءِ
يومي الأول في العمل, أجابت أمي وتحدثتُ معها, ثم تحدثتُ مع أبي, حدثني عن جميلة
وحياتها الجامعية, لم أصدق أن تلك الطفلة الصغيرة التي كنتُ أتشاجر معها دوماً
أصبحت الآن آنسة جميلة في الجامعة, كم تعبت مشاعري ببعدي عنها, وخوفي عليها.
شجعني أبي وواساني بكلامه, مدح بي وبصمودي, كنتُ
قد اتصلتُ به قبل يوم وأخبرته بحقيقة الضابط وكل شيء, لأن أبي لا يتناسب معه
إخفائي وعدم وضوح الأمور معه, تفاجئ كثيراً واستهجن الخبر, لكنه أيضاً كان
متضامناً معي ومسالماً.
تحدثتُ معكِ بعد إنتهاءِ محادثتي مع أبي, إطمئننتُ
عليكِ وأخبرتكِ بأنني استلمتُ عملاً جديداً, وتسائلتِ عن طبيعته, ترددتُ كثيراً
لكنني امتعنتُ مطلقاً أن أكذب عليكِ, قلت:
نادلاً في فندق.
صمتِّ في دهشة, وأخذتِ وقتاً في التفكير بالإجابة,
لم أقل أي شيء منتظر جوابك, قلتِ بتصنع الرضى:
جيد.
أردفت: لم يكن عندي حلٌ آخر, هو بكل الأحوال أمرٌ
مؤقت الى حين أن تفرج عزيزتي.
- عزيزي انا سعيدة بك, ولا يهم ما تعمل, المهم
أنكَ تعمل, ستفرج بالتأكيد.
- ستأتين عندي؟
- خالَك أتى البارحة وشرح لنا وضعك, لا أظن
أنك ستتمكن من العودة حالياً, لكنني لن أخرج من الوطن لآتي إليك مطلقاً, ليس قبل
أن تستسلم لتقول لي الحقيقة التي أعيش بالتفكير بها نهاراً, والحلم بها ليلاً؟
- أيُّ حقيقة؟
- حقيقتكَ مع الضابط الذي يراقبنا, ويريد أن
يقتلك, جلال, أظن أنني لن أصدق أن الموضوع كله كما قلت, ولا صحة منه, وأن هناك
سببٌ آخر فعلته جعلك تهرب من المعسكر.(وبعد صمت) ومن الوطن.
- لم أكذب, حلفتُ لك.
- لقد أتى رجالٌ يبحثون عنك لأنك هارب من
العسكرية كأي إجراءات لأيِّ هارب, ولكن.. هل سبق وأن تشاجر ضابط مع متدرب عسكري
لدرجة أنه يريد قتله وملاحقتة حتى بعد هروبه؟
- نعم, يمكن.
منكرة: ها! ويراقب أهلك أيضاً بالخفى ليعرف أين
أنت؟
- بالتأكيد, ألم أستفزه بفعلتي؟!
بغضب: أتسخر مني جلال؟ أم تسوق الجنون معي, ماذا
فعلت معه؟ قل حالاً.
مندفعاً: كشفتُ عن طريق الصدفة أفعالٌ خبيثة وخطيرة
يقوم بها بسريّة, وحينما عرف أنني كشفته, قرر قتلي.
صمتِّ, وكأنما دُهشتِ, لكنني قرأتُ في صمتكِ
تصديقي, تابعت:
إرتحتِ الآن؟
بهدوء متصنع: هل كان صعباً عليك أن تقل لي ذلك من
البداية؟
- نعم, كان صعباً لأنني كنتُ مشوشاً وخائف.
- خائف أن تقول لي؟
- خائف من فكرة الموت التي تلاحقني, ومن يأسي
من العودة.
- لكنك تأخرت في ذلك, كلما اتصلتَ بي كان
جموداً كبيراً بداخلي يمنعني عن ثوران مشاعري تجاهك, لأفكارٍ مختلطة غير مريحة
تدور في رأسي حول ما فعلت وما حدث فجأة معنا, وأمتنع عن سؤالك لأنك تتهرب منه
دوماً, وتثير غضباً.
- حبيبتي, انا آسف, ولكن أعذريني فانا حقاً
كنتُ متخبطاً لدرجة لم استطع فيها فعل أي شيء او البوح حتى, أرجوكِ ياسمين, فلتنسي
الموضوع وتحافظي على سريته.
- جلال انا لا اعرفك سلبياً, أخبر الجميع
لنبلغ عنه, الأمر ليس هيناً.
- ياسمين, اسمعي مني ما قلتُ وأطيعيني, لا
تفعلي شيئاً, سيؤذينا, نفوذه سيمكنه من ذلك.
- وإن أذانا نحن مقابل أن تعود؟
- لن يستطيع, سيؤذي نفسه إن فعلها قبل أن
يؤذيكم, لا تجادليني كثيراً, الأمر مدروس من كل الإتجاهات وحله ما انا به الآن,
ستفرج بإذن الله.
متنهدة بغر رضى: حسناً عزيزي, كما تشاء.
- سأتصل بخالي لنرتب قريباً موعد خروجك من
البلد.
- جلال..لكن.. جواز سفري ببيتِ أبي, لم أصطحبه
معي.
صمتّ, وصعقتُ في تخبط الأفكار, كرد فعل تلقائية
بدأت ألومك, لكنكِ عاتبتني لأنكِ وقتها لم تتمكني من اصطحاب شيء إلا الضروري
والمتاح, ثم قلت:
حسناً حسناً, سنجد حلاً لنخرجكِ من البلد.
- حسناً, اتصل بخالك وأخبرني بكل جديد.
*******
مفاجئاتُ القدرِ واسعة, الى حد أن كل ما يخطر في
بالك من أمور وخيالات, يأتيكَ القدر بما لا تتوقع ولا يخطر في بالك.
بعد حوالي شهرين, من العمل المتواصل, عدت لأشعر أن
الأيام بدأت تمر بسرعة دون شعور, لانشغالي بالعمل المتعب, وصبري من أجل مرور الوقت.
استيقظتُ ظهراً على مكالمة من خالي, كان صوته
مضطرب, شعرتُ بالخوف, قال:
جلال, وصلتني رسالة غير مطمئنة.
متفاجئ: مِن مَن؟ وما هي؟
- وصلتني من مرسل مجهول.
- ها؟
- مفادها أن ياسمين مراقبة بكل خطوة تخطيها,وهناكَ
من يقوم بمراقبتها طوال الوقت, وإقترابها منكَ أينما تكون او حتى إقترابكَ أنت
سيكن نهايتكَ لا محالة, وانتهت الرسالة بعبارة أن ذلك هو الأفضل والأكثر من الموت.
تجمدت, وكأنما صفعتُ ألف ألمٍ بوقتٍ واحد, من أين
تأتي تلك المفاجئات الصادمة؟! ولماذا ينتعني القدر من كل راحة أكاد أصل إليها!؟
تابع خالي : جلال, الأمر تعقد.
تابعتُ صمتي المتفاجئ, وأختنقتُ أنفاسي المتهيجة,
قال:
بماذا تفكر؟
- بخيبتي.
- لا تيأس, سنفكر في حل.
- حل؟ إن كنتُ قد يئستُ من عودتي, وها انا
يئست من مجيء ياسمين, فأي حلٍ سنجد؟!
- توكل على الله يا رجل, ستفرج.
تنهدتُ بقوة, ثم أنهيتُ المكالمة, ووضعتُ نفسي في
السرير كرجلٍ عجوز منهك لا يجيد الوقوف على قدميه, هارباً من هذا الواقع الى النوم
المتواصل.
*******
أين موقعي من الحياة؟
ضاقت عليّ الدنيا, وبلغ القمرُ بعيداً عنكِ, ولان
جفني للبكاء, على وطن, على أم, على عشيق, وعلى طفلٍ صغير.
هل تظنينني أُكسر, وأُهزم, وقد تركتُ خلفي إنتصاري
العظيمُ بكِ.
استشعري بيدي المرتفعتين للدعاءِ في كل ليلة,
وآمني, أن في الحياة نصيبٌ, لا يمكن لآخر أن يسلبه من صاحبه.
أتنظرينَ الى حبنا أنه حلمٌ عَبَر, وتظنينَ أن
الحلم لا يسئم التظاهر بأنه حلم, ها انا حققتُ حلمي بكِ.
ألم تخلق الأحلامُ كي تتحقق؟ فثقي بغدٍ أفضل,
وتابعي الحلم يا حبيبتي.
ها انا يجلدني عذاب الشوق هنا, وتتفننُ الغربة بي
لتسلب مني أفراحي, فرجائي إليك يا ياسمين, لا تجعلي قلبكِ ييأس, وتفنني بالصبر.
فانا كحد السيف يذبحني بعدك, وقلبي ينزف, وانا
مكتوم.
فصبراً وحسباً على أبيكِ الظالم, عذبني وعذبك,
ولكن صدقيني, في البعد, هي الذكرياتُ تعذبنا.
اتصلتُ بكِ لأخبركِ بما وصل لخالي, حاملاً همكِ
وحزنكِ فوق أحزاني, قررتُ معكِ تأجيل كل شيء الى حين مدة نجد فيها حلاً ما, وأضاف
لي خالي أن الإنتظار هو حلنا الوحيد حالياً.
دعيتِ بحقدٍ على الضابط الذي يفعل بنا ذلك, بجهلٍ
تام عن الحقيقة, آه يا ياسمين, تالله أخشى
عليكِ من هذه الحقيقة, وأعلم أنكِ إذا عرفتِها سأكبر في نظركِ بقدر ما سيتحطم كل
شيء جميل بقي بداخلك.
********
قليلٌ من الهدوءِ كان في فنجان قهوتكِ, ورشفة من
الصبر والحلم كانت تسقي زرعَ بيتنا المهجورُ حالياً, ومشاعر أخرى في مكعباتِ السكر
التي تذوبُ في فنجانكِ كانت تُضفى على الحب العالق في لوحاتِ المنزل, وعلى صورة زفافنا
الكبيرة التي تتوسط الحائط, كالبحر الذي أطفو معكِ فيها على قاربِ نجاة ينقذ أي عاشقيّن.
وانا, في المنفى, أعدُ الساعات وأكتبُ القصائد, ثم
أمزق كل شيء, لأعد أكتب من جديد.
وابني في مسكني طوابقَ جديدة من الصبر والرضى,
لأصعد إليها ساكناً راضياً في كل لحظة يأس مفاجئة, فرشتُ مسكني بالدعاءِ المتجدد,
وأقمتُ صلاتي في كل زوايا المكان, ورميتُ أحمالي على الله يا ياسمين, وخبأتُ همومي
تحت وسادتي, ومضيتُ للبحث عن عملٍ جديد, عليّ أجد أفضل من ذلك في منفى طويل.
لم أعد اكترث للأيام, أي يومٍ هو اليوم, وما هو
التاريخ, حتى بتُ لا أكترث إلا ليومِ الإجازة التي سأقضيها في المسكن, واتصالاتي
بكِ أصبحت تمدني بجرعاتٍ من الصبر, كما تمدكِ حينما تسمعين صوتي.
في مطعمِ الفندق, حيثُ أنتهيتُ من صلاتي في زاوية
المطبخ وهممتُ لتناولِ الأطباق الجاهزة لتقديمها للضيوف, سألني أحد النادلون
الأجانب بلغته:
أنت مسلم؟
أجبته بلغتهم: نعم.
قال: إذاً, أعطني هذا الطبق وخذ هذا لطاولة 5,
فجليسها مسلم عربي أيضاً.
ضحكت قائلاً: ها! حسناً.
تناولتُ الطبق متوجهاً إليه, كان يجلس برفقة رجلٍ
ذو هيبة, لكن ملامحه أجنبية, وضعتُ الطبق أمامه قائلاً بالعربية:
تفضل.
رفع نظره لي مبتهجاً, قال:
أنت عربي؟
- نعم.
- لم يسبق لي أن رأيتك, انا آتي دوماً الى هنا.
- انا استلمتُ عملي من وقت قريب, من حوالي
خمسة أشهر, لكنني لم أكن أعرف أنكَ عربي, تشرفتُ بك, وأتمنى أن ألتقي بكَ دوماً.
- أشكرك, وانا كذلك.
ابتسمتُ له مُرحِباً ثم انصرفتُ الى المطبخ, شعرتُ
بارتياح داخلي تجاهه, ربما لأنه ابتسم لي بلطف, وكان تعامله معي بسيط متواضع.
هممتُ للعودة للبيت, حيث منتصف الليل, وجواً
بارداً بعض الشيء, وأجواء غير مريحة وآمنة, وجدتُ لائحات تطلب موظف بمواصفات خاصة
غير متوفرة لدي, كنتُ أقف عندها وأتمعن عليّ أوفّق بها, ثم أتابع سيري لأجد شباناً
تجلس في منعطفات الطريق, تدخن, وتلف السجائر, أشكالهم غريبة, زنوج, و سود, ومنهم
من يرتدي ثياباً ممزقة وواسعة, ويضع الأوشام, ويحمل أشياءً خطيرة للإيذاء, كنتُ
أتعجل السير إذا ما مررت بجانبهم, مبتعداً عنهم لألا يروني ويحاولي الحديث معي او
الإقتراب.
حالما أصل الى المسكن, أنام فوراً, لألا أعتاد
الإستيقاظ الدائم ليلاً, وحتى في أوقاتِ هروب النومِ من عيني, كنتُ أفتح التلفازُ
الصغير في غرفتي حتى يأتيني النُعاس وأذهب في نوم.
في مطلع يومي التالي, حيثُ مضيتُ وقتي في الكتابة,
وبحثتُ عبر الإنترنت عن رواياتٍ باللغة العربية أمضي وقتي بقرائتها وإضاعة وقتي بها,
اتصلتُ بأهلي كعادتي ثم بكِ, ومضيتُ في السادسة الى عملي.
هكذا كنتُ أقضي يومي, وعلى هذا النحوِ او ما شابه,
لم يكن روتينياً لي لأنني لا أكترث وأفكر بما أفعل, إنني أهتم بأن يمضي يومي وينتهي
بسرعه.
أقبل للمطعمِ نادل جديد عربيّ الجنسية, شعرتُ
بفرحتي الكبيرة لمجرد تعرفي عليه, ومضيتُ أغلب أيامي في الحديثِ معه وقضاء الوقت
معه في العمل المشترك, خاصة وأن الآخرون كانوا ينظرون لي بدونيّه, وكانوا يمتنعون
عن الحديث والتسلية, إنهم يعملون بجمود لم أعتد عليه.
في أحد أيامي, حيثُ كنت في المطبخ أحضّر لوجبة
زبون, أقبل فراس -النادل العربي- ليخبرني عن الضيف العربي الذي يقبل للمطعم ويتحدث
مع النادلين العرب بكل إحترام ولطف, جذبني ذلك لأنني أصبحتُ أهتم به كلما حضر,
وأصبحتُ أمازحه وأحادثه دوماً, راق لي أن أقدم له مشروب تحت حسابي, وأسأله فيما لو
يمكنه أن يوظفني في أي مكان نظراً لخبرته في البلاد ومنصبه فيها.
وضعتُ فنجان القهوة أمامه, ثم حدثته عن الموضوع
باختصار, قال: هل أنت غير مرتاح بعملك هنا؟
- في الحقيقة, نعم, العمل متعب وغير مريح,
ودوامه طويل ومتأخر.
- حسناً, ماذا لديكَ خبرات مسبقة؟
- انا مهندس, مهندس معماري, كان عندي مكتب
ناجح في بلادي وكنتُ مبدع في العمل, لكنه الآن مع الأسف مغلق, والشاب الذي كان
يعمل معي الآن يعمل مع شخص آخر بسبب إغلاق المكتب وسفري.
متعجباً: يا بني! لماذا تركت بلدك اذاً؟
- الظروف أجبرتني على ذلك.
- وهل معك شهادة الآن؟
- ليست معي هنا, هي بقيت في بلادي.
صمت وسرح قليلاً, ثم قال: والله يا بني لا أدري
كيف يمكنني أن أساعدك, لكنني سأحاول.
ابتسمتُ في خيبة غير واضحة, وقلت: لا بأس, أشكرك
بكل الأحوال, أعذرني فقد أخذتُ من وقتك, بالإذن.
رأيت في عيناه نظرة تحسر, وبنفس الوقت إرتياح تجاهي,
ربما شعر بأنني رجلاً جيداً, وربما ظهر ذلك عليّ دون تكلف, فالإنسان يظهر على
حقيقتة وقت اللقاء دون أن يشعر, وهذا ما كنت واثقاً به كل الثقة.
إتفقتُ مع فراس في نهاية وقتِ الدوام أن نلتقي في
الغد قبل ذهابنا للعمل, لنقضي مزيداً من الوقتِ معاً ولنتناول الغذاء أيضاً في أحد
مطاعم المدينة.
حدثني بلقائنا عن حياته وظروفه التي أدت به الى هنا,
هو أصغر مني سناً ويدرس في الجامعة, لكنه يعمل ليلاً في المطعم ليحصي مصروفه,
أخبرني أنه يعمل أيضاً في مجلة جامعية عامة تصدر أسبوعياً, يكتب بها أخباراً ويحصي
لها الأحداث, وعرض عليّ أن أكتب بها مقالات او ما شابه حول مواضيع عامة حينما
أخبرته بهوايتي الكتابية, وبالتأكيد كان ذلك عرضاً مغرياً بالنسبة لي, قال لي أنه
سيسأل مسؤول المجلة, ويعطيني رده.
مضيتُ ليلتي في دعاءٍ ورجاء, لأن يُصلح حالي وأنال
ما أريده, في صباحِ يومي التالي, مضيتُ وقتي في القراءة, اتصلتِ بي, كان مزاجي هادئاً
مرتاح.
قلت: ياسمين, أدعي لي, أن يحقق الله ما ببالي
لأرتاح.
- ما ببالك عزيزي؟
- ربما سأعمل كاتب مقالات في مجلة أسبوعية,
وربما سيكن ذلك مقابل عملي المتعب في المطعم, لأرتاح وأعمل في مجال ممتع على
الأقل, أتعرفين شيئاً, حمداً لله أن لغتي الأجنبية ممتازة, سأبدأ من اليوم في ترجمة
مقالاتي, وسأتعمد الحديث عن مواضيع قيّمة, وزرع قيم عربية, بل وسأوثق أسمي ككاتب
عربي أيضاً.
- حمداً لله يا عزيزي, أسأل الرب أن يوفقك.
- ما بال صوتكِ ياسمين؟
- لا شيء عزيزي.
- صوتكِ غير طبيعي, متعب, ما بكِ؟
- الحمل أرهقني يا جلال, أقترب موعد ولادتي.
- يا الهي, كم انا منهك ببعدي عنكِ وعن مشاركة
أوجاعكِ.
- لستُ متعبة من الحمل كوضع طبيعي, انا متعبة
من بعدك عني, من ولادتي بعيداً عنك, انا متعبة منكَ ومني, أنت تبحث عن العمل وقضاء
الوقت, وانا هنا أحترق وحدي بتعبي ووجعي.
- حبيبتي, إن كنتِ قد نفدتِ صبركِ فانا سأكون
بين يديكِ صباح الغد, حتى وإن قُتلت, لا يهم.
بكيتِ بحرارة, حتى ثار غضبي وضوجاني, قلتِ: لا يا
عزيزي, لا أريد أن تُقتل, لم ينفَد صبري ولكنني مختنقة, أعذرني, حمولتي ثقلت حتى أهلكتني,
حملي في فترة هم, وحاجتي للإهتمام والمشاركة, وشوقي إليك, ووحدتي أصبحت تثير
جنوني, وأمك تتعذب أمامي وانا أحاول التخفيف عنها, وتحاول التخفيف عني, البيتُ
أصبح كئيباً, لا تدخله البسمة والشمس, ماذا فعلت أنت يا جلال, ماذا فعلتَ بي
بغيابك هذا.
اختنقتُ الكلام في حنجرتي, صوتكِ وأنتِ تبكين أثار
جنوني, انا بعيد عن عيناكِ الباكيتان أعجز عن مسحِهما, قلتُ بصوت مختنق:
آمني بالله.
تلاشَ اهتزازُ صوتكِ المرتجف شيئاً فشيء, وأخذتِ
نفساً ضاع فيه بُكائك, قلتِ:
أعتني بنفسك عزيزي, سأدعو لك في جوف الليل بالراحة
والتوفيق.
أردفتُ مسرعاً: أعنتي بنفسكِ أيضاً, واصبري يا
عزيزتي, الأمور ستكن بخير إن شاء الله.
********
توصلتُ عبر الإنترنت الى الصحيفة اليومية التي
تُصدر في بلادي, عن طريق موقعها الإلكتروني, ووضعتُها في أولويات قرائاتي اليومية,
لأنني كنتُ قد أعتدتُ أن أقرأها في الوطن كل صباح في مكتبي, فكرتُ فيما لو أن أجمع
من راتبي مبلغ لشراء طابعة تابعة للحاسوب الذي اشتريته الشهرَ الماضي, لأطبع
الرويات والأخبار على ورقٍ تريحني القراءة وتساعدني التنقل بها.
اتصل بي فراس, وأخبرني بموافقة مديرَ المجلة على
مشاركتي معهم, فرحتُ كثيراً, لكن الراتب المعروض علي والذي لا يعادل راتبي في
المطعم, ولا يفوقه حتى, جعلتني أشعر بخذلان كبير, أصدمني حتى كدتُ ألغي فكرة العمل
هذا, إلا أن حاجتي إليه ولتمضية وقتي كانت أكبر وجعلتني أوافق واتخذه عملاً
إضافياً.
الأمور كانت مشوشة بالنسبة لي حتى يومي التالي في
العمل بالمطعم, حين أقبل الرجل العربي وطلب فنجان قهوة فقط كغير عادته, وطلب
إستدعائي إليه, كنتُ مرتبكاً متفائلاً بوقت واحد, أقبلتُ إليه بفنجانِ القهوة مبتهجَ
الملامح, وضعتها أمامه ووقفتُ منتظراً, تناول رشفة منها وهز برأسه, ثم قال:
كيفَ خبرتك في تنسيق المعاملات والطلبات؟
صمتُّ في تعجب, نظر إلي وضحك, ثم تابع:
حسناً, ما رأيك اذاً؟
متعجباً: بماذا؟
- لدي شركة مقاولات, يعملُ في قسم إستقبال
الطلبات والمعاملات موظفان, و وجدتُ أن هذا مكان مناسب لك, فما رأيك إشراكهما؟
فرحتُ كثيراً وأخذت أنظر في كل مكان باحثاً عن ما
يُقال, قلتُ دون ترتيب أيٍ من كلامي:
بالطبع, بالطبع هذا أفضل ما يمكن أن يُقدم لي,
أشكرك, أشكرك جداً.
ضحك مجدداً وربّت على ذراعي, تابعت:
لا أعرف كيف سأوفّي معروفك هذا معي, صدقني لقد
حققت لي غاية عظيمة.
- لا داعي للشكر, أنت كابني, ويجب أن نكون في
بلاد الغرب يداً واحدة, ولكن, حدثني عن قصتك وظروفك التي أدت بك الى هنا, هيا إجلس
أمامي.
- أجلس؟
- نعم إجلس, انا آمرك بهذا لا تهتم, ألن تترك
العمل هنا, لا تكترث هيا.
جلستُ ضاحكاً, ولم أتفوه بشيء, قال:
إذاً, ما هي قصتك؟
- هل انا مجبراً على البوح بها؟
- ها! ألا تريد؟
- القصة طويلة, ربما ستشعر أنها كأفلام
السينما الدرامية -ضحكتُ وتابعت- لكنها موجعة.
صمت وصمتّ, نظرتُ الى عيناه فوجدتُ فيهما التشوق
والإنتظار, قلت:
لماذا وافقت على تشغيلي؟
ضحكَ بهدوء, ثم قال بجديّة:
أولاً, لأنك عربي, وانا أريد أن أتكاتف مع كل عربي
بهذه البلاد خاصة وإن كانت ظروفه صعبة.
- وثانياً؟
- لأنكَ كابني الذي أحلم أن أراه مثلك, وفي
عينيكَ قصة تشوقني قرائتها.
- القصة لا تُقرأ قبل أن تنتهي.
- ألم تنتهي؟
- ليس قبل أن أعود للوطن.
ضحك, قلت: لماذا تضحك؟
- لأنك تتحدث بشكل جذاب, يبدو عليك شاباً من
عائلة راقية, يظهر ذلك في طريقتك وهيئتك.
ضحكت, تابع:
سأختار لك عروساً عربية بنفسي, لألا تغيرك الغربة
وتختار أجنبية.
ضحكتُ طويلاً, ورفعتُ يدي اليُسرى موجهها نحوه
ليرى دبلتي, قلت:
ألم تنتبه لها مسبقاً؟
نظر باستغراب, وقال:
أتصدق؟ لا.!
ضحكت: سيكون عندي طفل بعد ما يقارب شهر.
صمت في دهشة, وظهرت ملامحه متسائلاً: هي تعيش معك هنا؟
- لا.
- ولماذا تركتها؟
- لأنني انتصرتُ بها.
قبض حاجبيه متسائلاً بصوت عالي: ماذا؟!
سندتُ ظهري الى المقعد, ابتسمتُ قائلاً: سأعود لها,
ولطفلي, ولكنني أنتظر الوقت المناسب.
*******
ما يحدثُ هو أن الغياب يحيط القلب كالغلاف, ويعلق
أعذاره ومبرراته على الإنتظار, كما يعلق العقلُ خطاياه على القلب, وتُخفى وراء
أعذاره دموع جمّة تُخبئ تحت الوسادة, ويطولُ الليل, حتى تصير الأيام بعدها كسلك
شائك يفصل بين بلاد مازال طريقُها وترابها واحد, والقدرُ ليسَ هيناً, لكنه على
الأقل عادلاً, وقادراً ليتخطى تلك المسافات ليحقق غاياته.
بعد شهر, اتصلت بي أمي لتخبرني بولادتكِ, وبأن
حالتكِ جيدة وحالة ابننا الصغير, أطمئتني بكلمتين لطيفتين, لم تؤثرا بي, فأيُّ شيءٍ
أقسى من أن أكونَ بعيداً عن ابني يوم ولادته.
شعرتُ أنني امتلئتُ بالاختناق, واغمضتُ عينيّ تارة
امتصصتُ بها دمعتي.
أخبريني ما هو الحل المنطقي للوصولِ لكِ, مسيحياً
كنتُ أم مسلماً, ما هي الطريقة المثلى لأكون معكِ بمثل هذه اللحظة؟
ما بالُ أباكِ, وكيفَ وضعني القدرُ معه بمكانٍ
واحد ليستغل الفرصة للتخلص مني, أو حتى للتخلص من خطيئتكِ عن طريقي, ما باله يريد
أن يقتلني حياً, ويقتلكِ بي, هل كان حقاً يخطط لفعل ذلك بأي طريقة, أم أن العسكرية
كانت فرصته التي أتته جاهزة؟
أكرر لنفسي أنني رجلاً, ويكرر أبي في اتصالاته
عبارة (كن رجلاً), هل حقاً تحتاج الرجولة كل هذا العناء؟
إشتريتِ صليباً وقرآناً لتثبتي مسيحيتكِ وإسلامي,
وانا..إشتريتكِ لأثبت رجولتي, ولأنكِ غالية الثمن, أثقلني الديّن كثيراً.
********
الأيامُ تمر كالسحاب الذي يمطر أحداثاً وتجارب, في
مواسم مختلفة, تارة في فصل الجفاف يمر ببطئ قاتل, وتارة في فصل الصقيع يمر بسرعة
قصوى.
مرّ شهران من العمل في الشركة, كان زميليّ في
المكتب عربيان, في أول أسابيعي بالعمل كان إحداهما أجنبي لكنه إستقال وتوظف مكانه
عربي, لقد وجدت أن الرجل الذي وظفني عنده يمتلك إنتماء كبير للوطن, ربما يحب أن
يجمع العرب لأنه يرى أنهم أحق بالعمل في شركته من أشخاص غُرب, إلا أن فكرة تغريبته
عن وطنه ومكانته الإجتماعية التي صنعها هنا جعلتني أستهينُ بإنتمائه قليلاً,
وأوقفني ذلك التفكير الظروف الصعبة التي يمكن لأيِّ انسانٍ أن يُضع بها.
في المساء, كنتُ أعودُ للمنزل لأكتب مقالات,
وأحياناً كنتُ أُقبل لأحد المقاهي المفتوحة أو المغلقة لأكتب بها, وفي ساعاتٍ أخرى
كان يروق لي أن أجلس في منتزة المدينة بين العشب والأشجار, بدأت أرتضي بيومي, عملٌ
في الصباح الباكر حتى مسائاً, ثم كتابة مقالات, وأرسالها في نهاية الأسبوع للمجلة,
وتمضية يومَ إجازتي في التعرف على البلاد, أذهب لأماكن مختلفة, وأحياناً ازورُ
أماكن معروفة, العمل الجديد نظم وقتي وحياتي أكثر, وجعلني مرتاحاً كذلك.
في مساء يومي, عدتُ للمنزل, هاتفتكِ:
آلو؟
ابتهجتِ: جلال, حبيبي, كيف أنت يا عزيزي؟ وما هي
أخبارك وأحوالك في منفاك؟
- حبيبتي انا بخير, كيف حالكِ أنتِ؟ وكيف أمي
وأبي؟ وجميلة كيف دراستها الجامعية؟
- جميلة سعيدة بما تدرس, وهي متفوقة ونشيطة
جداً, جميعنا بخير لولا غيابك عنا.
- ستفرج عزيزتي, لا تقلقي.
تابعتُ بصوتٍ منهك:
كيف حال ابني الصغير؟
صمتِّ قليلاً, ثم اجبتي بصوتٍ حزين:
يشبهك كثيراً.
وبعد صمت تابعتِ: ستفرج عزيزي.
- إن شاء الله.
- حسناً, أخبرني ماذا سنسميه؟
ضحكتُ قائلاً: الأسمُ لكِ, أسميه ما شئتِ.
بصوتٍ مرتبك متقطع: جلال..هل..هل تقبل أن أسميه..
ناصر؟
اجبتُ متفاجئاً: ناصر؟!
- على اسمُ ابي, أتمنى ذلك.
منكراً: على اسمُ أبيك ياسمين؟
- جلال, انا أحبه جداً, وأشتاقُ له أيضاً, لا
أنكر أنه لم يكن طيباً معي او مع أختي, وما كان متسامحاً, لكنه رجل صالح, وكان
يحبنا كثيراً, انا أعرف كم هو رجل شديد, لكنه حنون, لا يُظهر ذلك ويخفيه, لكنني
أؤمن أنه كذلك, إنه ليس بهذا السوء صدقني, هو فقط أراد أن يختار لي الأفضل بنظره,
وما كنتُ أتمنى أن أخالفه يوماً او أعصيه.
- لماذا تزوجتني إذاً؟
- لأنك علمتني الواقعية والمنطق يا جلال,
باقي العمر, والسنين الطويلة, والأطفال والحياة الأخرى ما كانت لتكون بصحبة رجل لا
سعادة ولا أمان معه, انا أحببتك حد الجنون, لذلك فحياتي معك هي الحياة, وأن أختارك
وأهرب كان الحل الأنسب, ولكن لا تظن أنني ما عدتُ أحب أبي وأمي كما كنتُ أحبهم وما
أزال أحبهم.
صمتّ, لم اعرف بماذا سأجيب, تابعتِ بسبب صمتي:
جلال, لم أكن لأعترف لك بأن إسلامك أهبني طمئنينة
الإختيار, ولا تسألني لماذا, وابني سُيربى مسلماً كأباه على يدي برفقة أهلك,
مسؤولية إختياري لمسلم انا سأحتملها وكنتُ أعرف أبعادها جيداً حينما قررتُ أن آتي
معك, ولكن لا تنسَ أنني مسيحية لا أتجرد من ديني حتى بالموت.
- وانا أحتمل هذه المسؤولية معكِ, ومازلتُ
أحبك حد الموت, بل حد الأكثر من الموت.
- وانا أحبك أيضاً يا عزيزي.
صمتنا قليلاً دون كلام, ثم تابعتِ: إذاً, هل توافق
على اسم ناصر؟
صمتُّ ولم أجب, آه يا ياسمين, كم أنتِ شبيهة
بالأطفال الذين يجهلون كل ما يدور حولهم, ويتسائلون بعفوية وحسن نية, كيف لكِ أن
تسمي ابننا باسم الرجل الذي حرمني الآن من رؤيته, الذي أذاقني المر والعذاب والهلاك,
الرجل الذي بخُل أن يهبني الراحة والطمأنينة خلال حياتي, والذي أنفاني عن وطني,
وعنكِ, الرجل الذي استبعدتُ أن أرى أسوء منه ومن أفعاله, كان سينهي لي حياتي,
ويعذبكِ بفراقي, وييتم لي ابني, ليرسل لك رسالة مفادها أن الرجل الذي فضلتيه علي ها
هو تحت التراب لا قيمة له, أباكِ يا ياسمين يجرد الإنسان من إنسانيته, ويتعامل كما
أن الكل حيواناتٌ أليفة لا مصيبة عظيمة إن ماتت, أو قُتلت, خاصة وأن مجتمعي لا
يحسن الرفق بالحيوان.
تسائلتي بسبب صمتي: جلال؟
لم أكن أعرف الإجابة الأمثل التي يمكنني أن أجيبكِ
بها, وما هو الأسلوب الذي ستفهمين من خلاله أنني لن أرفض لكبرياء او عنصرية, وجدتُ
أنه من الأفضل أن لا أقول شيئاً تابعاً لجوابي, فلا شيء يُقال, لا شيء يا ياسمين.
أجبتُ بهدوء: لا, لن أقبل.
لم تقولي شيء, شعرتُ بحزنكِ وعتابكِ الصامت, كنتِ
ستستنكرينَ جوابي, لكنكِ امتنعتِ, ربما شعرتِ أن ذلك مختلط فيما إن كان هو من حقي,
أم أنه من حقكِ أنتِ.
********
أتسائل ما هو معنى الأيام والأشهر التي تمر, وما هي
لذة العيشِ في بلاد موحشة تبعدك عن تفاصيل في وطنك ما كانت أهميتها على بالكَ, كأن
تبتسم للمارة في طريقك لعملك, وتلقي التحية والسلام على من تلتقي بهم, وعلى بائعي
الخضار والفواكة, وتستقبل زبائنكَ في المكتب تضحك وتتحدث معهم, وتتساهل مع بعضهم
في السعر, ثم تبدأ بعملك الذي أحببته وأخترته, وترمي خبرتك الطويلة في دراسة ميولك
وأحلامك بهذه المخططات والرسوم الهندسية.
وأشتاق وسط هذا الخواء المنفر الى قبعتي الصفراء, والى لباسِ المهندسين, والى وقوفي بجانب العمال, والإشراف عليهم.
وأشتاق وسط هذا الخواء المنفر الى قبعتي الصفراء, والى لباسِ المهندسين, والى وقوفي بجانب العمال, والإشراف عليهم.
لم أعتد على الجلوسِ في مكتب, او العمل لساعات
متقطعة, خاصة وأن العمل هنا يتقسم بين ثلاثة موظفين فلا يُرهق ولا يتراكم, أعتدتُ
أن أغرق في العمل دون أن أشعر بالوقت, وأن أمضي معظم وقتي خارج المكتب في المواقع,
إن الذي قال بأننا لا نشعر بقيمة ما نملك إلا حينما نفقده, كان حكيماً للغاية.!
حينما اتصل بي والدي ذلك اليوم ليطمئن علي, سألني
بلحظة من الجديّة (ماذا بعد يا جلال؟) شعرتُ بسؤاله أن الحياة تهرب مني, وأن
الموتَ يقترب أكثر, شيءٌ ما بداخلي كان ينخزني بعنف, لا أستطيع فعل أي شيء سوى أن
أعلن أن مفاي هذا ربما سيصبح حياتي الجديدة.
الإستسلام والإنقياد لواقع بائس ليس من صفاتي,
وليس من ورثتي, بردُ الغربة يوقظ كل الأعماق الدفينة, ويُشعرني بعمق العجزِ وقسوة
المنفى.
ما دار في بالي حينما حلت السنة الجديدة في مفناي,
هو أنني ميتٌ لا محالة, ما فائدة الحياة؟ وماذا أفعل انا هنا؟ مادام الموت يتساوى
بالحياة بالنسبة لي, فماذا بعد؟ إن كنتُ بعيداً عن ابني بكل الأحوال, وبعيداً
عنكِ, وعن وطني وعملي وأهلي وأصدقائي.
أعيشُ ليلتي اليوم في شربِ كأس ذاكرتي, في كل جرعة
أرتشفها تزدادُ خطواتي للماضي, أتذكر لقائنا الأول, وجمالكِ الفتان, بساطتكِ,
نظراتكِ المجهولة, كنتِ كضوءِ القمر وسط سوادٍ قاتم يُنير من بعيد, ويُميزُ
سريعاً, وعيناكِ اللوزيتان, فيهما الوطن والحب مجتمعان.
أتذكر حينما تنازلتي عن مساحات الكبرياء وتحدثتي
معي, كانت مهلكة هي مراحل الوصول فقط لنظرةٍ منكِ.
أتعلمين ماذا يجري لنا حينما تتقابل أعيننا, ونحن
نعشق؟ نضعف..!
آه حينما تقابلت أعيننا, واستغرقنا النظر, قلوبنا
قالت ما تريد, إعترفت وقالت دون أن تلجئ للإستعانة بأي عضوٍ آخر.
فهل حقاً نخسر قدسية اللقاء الأول بعد مرور العمر
والسنين؟
في جرعتي الأخيرة, جائتني لحظة وداعنا, والتي لم
أركِ من وقتها, مرت سنة بغيابي عنكِ, بما إقضيته في المعسكر و في المنفى, كانت
كلماتكِ وقتها تعدُ الأيام والسنواتِ الآتية, ورمشاتِ عيونكِ الحزينة تخزن صورتي
الأخيرة, لا أنسى تلك اللحظة مهما طالت السنواتُ عليّ ها هنا, تالله لا أنسى إنهياراتُ
دموعكِ المخزونة في عيناكِ, لا أنسى قسوة تلك اللحظة.
يريدُ البعدُ أن يقتل كل شيء جميل كان بيني
وبينكِ, أوله جنوني, جنون العاشق.
في المنفى, ها هنا, الجنون لم يعد ينفعني, ولم يعد
يليقُ بي, الحياة تغيرت كثيراً ولم تعد كما كانت, وحدها الذكرياتُ الجميلة تعطينا
شهوة الصبر والأمل والذهابُ نحو كوكبِ الأحلام.
********
أرتب الملفاتُ والطلبات بحسب التواريخ والأولويات,
وأضع فنجان القهوة على يميني, يقولُ عادل -زميلي في المكتب- مسنداً ظهره للكرسي:
آه, تعبت!
ابتسمتُ ساخراً دون صوت, إنتبه لي محسن-زميلي
الثاني- , قال ضاحكاً:
جلال لا يعرف التعب.
ضحكتُ بصوتٍ مسموع, ثم أردفت: وهل العمل هذا متعب
لهذه الدرجة؟
عادل: ترتب طوال نهارك في ملفات وطلبات متجددة كل
ساعة, وتستقبل اتصالات وتنظم الأمور, وتراه غير متعب؟
ضاحكاً: بالنسبة لي لا, ولكنني أحترم رأيك.
محسن: وما المتعب بالنسبة لكَ جلال؟
- أتصدق يا محسن؟ العمل هنا غير متعب و غير
سعيد, بعكس العمل في الوطن, متعب كثيراً لكن لذته ممتعة.
- وماذا كنتَ تعمل؟
- مهندس معماري.
- ها! ولما تركته إذاً؟
- ظروف.
عادل: أتعرفون شيئاً, الوطن حنون للغاية, كل شيء
فيه أجمل, كما قال جلال تماماً, ربما تعمل فيه بتعب وجهد لكنه جميل وممتع, على
الأقل تقدم خدمة لأبناء وطنك, وليس لأغراب.
قلت: لماذا لا تعودون له إذاً؟
- وهل وجدتُ به عملاً لأستقر, مضيتُ سنتين
بحثاً عن عمل دون جدوى, الى أن وجدته هنا.
أردفت: وأنت محسن؟
- انا مثله, تعرفتُ على السيد حاتم -مدير
شكرتنا- حينما كنتُ أدرس في الجامعة هنا, وهو يعرف عمي, وظفني حال تخرجي, ومن بعدها
استقريت هنا, لكنها كانت رحمة صدقني, لم أكن مستوعباً كيف سأعود للوطن وأعيشُ فيه
بعد سنين قضيتها بهذه البلاد, وتعودتُ على الحياة فيها.
ابتسمتُ بائساً ساخراً: لكن الوطنُ يحتاجكم.
عادل: يا رجل, نحن نريد أن نعيش, وأينما وجدت رزقك
عيش.
ابتسمتُ متحسراً, وتابعتُ عملي في حين قال محسن
لمسايرتي:
لكنني لن أرضَ أن أدفن إلا بالوطن.
شارك عادل مسرعاً: بالتأكيد, هذه أولويات وصيتي,
لن أدفن هنا.
لم أكترث كثيراً, ابتسمتُ لهم كرضى متصنّع وتابعتُ
عملي.
يوصّي الفردُ منهم أن يُدفن في وطنه, ويعيش بعيداً
عنها, او فيها ولكن بعيداً عن كل ما يخصها, حتى أمسى الوطن مقبرة سوداء, فيها
أرواح منتمية أرادت الموت فيها, الموتُ فيها فحسب.
انا عاجزٌ عن الإقتراب من وطني, وهم يعيشون هنا
بمحضِ إرادتهم ورغبتهم, ربما ظروفي هناك كانت أفضل منهم, ولذلك أشعر بقيمة ما
تركتُ خلفي, إلا أن الوطن بكل الأحوال حضنٌ لا يُعوض ولا يُترك.
من ما يُقارب الثلاث سنوات او أكثر بقليل, كنتُ
شاباً لا يصمت قط, ولا يُنهي حواراً بغير رضى وإقتناع, سواء أقتنع او أقنع, ولا
يُخفي مشاعره, ولكنني الآن وُضِعتُ في مواضع جردتني من عاداتي القديمة, وأنفتني من
شخصيتي المشتعلة باستمرار, لا سيما أن صدمة الإنتقالِ المفاجئ أثرت بي بشكل كبير,
ما ودتُ ولا تمنيتُ يوماً أن أسافر وأرتحل كأخي أيمن, ولم يرق لي الخروج من الوطن
إلا لغاياتِ السياحة والسفر, ولكن الظروف وضعتني بحالة مربكة مقيدة, لم أتخطاها
فعلاً إلا بعد حين.
صمتي وهدوئي هنا جائني نتيجة صدمة الأحداث وعجزِ
القيام بشيء, فما أبشع أن يهزمنا القدرُ لننتهي بصمت, وتعجز ألسنتنا عن التعبير
بما يدور في مشاعرنا وعقولنا.
منفى مزدوج, من الوطن ومنكِ, فماذا بعد الصبر؟..إنه
الفرج لا محالة.
********
قلتِ لي ذات مرة: ليتنا لا نجيدُ البكاء.
وقعت كلمتكِ اليائسة تلك في خانة ذاكرتي الواسعة,
وامتنعتِ وقتها عن التصريح بالمقصود, إلا أنني مؤخراً بدأت أتفهم أن تلك اللحظة
سبقتها شجار مع أبيكِ, والآن, انا أقول لكِ: ليتني أجيدُ البكاء.
اتصلتُ بخالي:
كيف أنت خالي؟
- بخير, المهم أنت, كيف حالك وعملك؟
- بخير بخير, هل هناك أخبار جديدة؟
- ألتقيتُ البارحة بصديقي حسنين برفقة أباك, هذا
رجل ذو منصب جيد, أخبرته بقصتك وسألته فيما لو كان بإمكاننا فعل شيء.
- ها وماذا قال؟
- آه يا جلال, في الحقيقة أخبرني أن الموضوع
ليس سهلاً, خاصة وأننا إن فكرنا بتقديم بلاغ فلا يوجد دليل واضح, وقد يُقلب ذلك
ضدنا لأنه قد يكون إتهام كاذب, ولا تنسَ أنك هارباً من العسكرية, وأخبرني أن أسعى
لإخفاء معرفة مكانك, لأن ذلك سينجيكَ من سجن ليس بأقل من سنة.
- لو كان بالسجن فحسب, أُسجن سنين مقابل أن
أعود لحياتي القديمة, ولكن القضية بما بعد السجن, او حتى بما سيحدث بالسجن نفسه.
- جلال, أأذهب لأبا ياسمين وأحدثه؟ أطلب منه
أن يكف أذاه عنك وينساك.
- لا, لن أخضع لرحمته ومذلته مهما حدث.
غاضباً: اذاً, أبقى بالمنفى حتى تموت.
وقعت كلمته كرصاصة قاتلة, ثمة أشياء متجسدة في
واقعنا, لكننا نكره تصديقها الى حد أننا ننفر من تخيلها حتى.
قال وقد شعر بأنه قسى علي: جلال, لا تغضب, أنا فقط
غير راضي بالحال هذا, ومتألم عليك وعلى أمك المسكينة وزوجتك التي تتعذب ببعدك.
قلت بصوتٍ غير راضي: لا بأس.
- ستفرج يا عزيزي, توكل على الله فهو حسبك.
- إن شاء الله, خالي, اتصل بياسمين وبأمي,
وأخبرهما بما قلته لي, حاول أن تطمئنهم قدر المستطاع.
********
اليومُ انا أشعر بإختناق كبير, لا حدود له,
أثقلتني وحدتي وحياتي الجافة, تأتيني في هذه اللحظاتُ ذكرياتي لاهثة, أيام المدرسة
والمراهقة الساخرة, وأيام الجامعة الممتعة, وأصدقاءُ الجامعة, طيشُنا ولامبالاتنا
وصوتُ ضحكنا المستمر, وأيامي الأخيرة فيها حيثُ تعرفتُ عليكِ وأحببتك, وأُغشي على
عيوني فلم أرى سواكِ, ولم تعد تقتربَ من قلبي امرأة غيرك.
كانت أجمل أيام عمري, هي أيامي في الجامعة, وأيامي
في العمل بالمكتب.
ها انا أُشعل سيجارتي وأرتشف ذكرياتي بكل رشفة منها,
بعد أن كنتُ أكره رائحة الدُخان.
أرتشف لحظة تخرجي من الجامعة, لحظة أن فتح لي
والدي المكتب, ولحظة أن أخبرتني بموافقتكِ الزواج مني, لحظة أن أهبتكِ الخاتم
برأسِ السنة داخل باقة الورود الحمراء, وعادوتُ تلبيسكِ إياه ليلة زواجنا, لحظة أن
عرفتُ بأنني سأصبح أباً في المعسكر, ولحظة ولادة ابني.
ليت اللحظاتِ الجميلة بحياتنا تتوقف مزيداً من
الوقت, لنُشبع ذاكرتنا منها.
ياسمين.. مختنقٌ جداً انا, ما بيدي أن أفعل؟
أيجدر بي أن أمزج بين الذكرى والمكان الذي وُضعت
فيه لأنام بسلام؟ أم أتقن فنون النسيان القاسية وأختبأ وراء ذاكرتي الموشكة على
الفقدان, أم أكسر حواجز الرجولة وأبكي؟ وأُنهي دور الكبرياء المقدس.
أكان لزاماً عليّ أن أموت لأثبت رجولتي؟
ظننتُ لحظة الضعفِ هي نفيي, لكن الحقيقة أنها
ذاتي.
أظن أن الحب يبعد أهل الأرض لكواكب الأحلام, ما لي
أن أفعل؟ بيننا منفى, وانا لست بطائر ولا مارد لأكون بين يديكِ الآن, لكنني عاشق,
يمكنني أن أُسمعكِ صوتي, وأن آتي لكِ في منامك, وأن أكتب لكِ فاستنشقي رائحة الحبر
الذي أكتب.
هذا المنفى اللعين أتخذني ضيفه, وبين جدران مكاني هذا
أعزف سيمفونية انتظارك.
انا هنا كزهر الياسمين التي تبكي وتقول هذا ندى,
لأن تلك قوانين الصمت.
فمن أين ستأتي العدالة أجيبيني؟ من معسكر بأقفال,
أم من عودة لأحبال إعدام.
ومن أين ستأتي الراحة؟ بعد أن بعدتُ عن الوطن,
صدقيني وحدها العدالة الألهية ستنصفني.
ماذا كان عليّ ان أقدم أكثر للوطن ليقدم لي, ومن هو
الوطن؟
حاكم أم مواطن؟
شعب أم أرض؟
أنتِ فقط الوطـن..
********
جلستُ مسائاً أتصفح الإنترنت حيثُ وجدتُ في بريدي
الإلكتروني رسالة دون عنوان, فتحتها وإذ كُتب فيها:
"مرحباً جلال, انا ياسر صديقُ العسكرية,
وجدتُ بريدك بعد بحث طويل عنك, كيف حالك صديقي وما هي أخبارك؟ وماذا تفعل بحياتك
الآن؟ أتمنى لو أن نلتقي قريباً."
أسعدتني الرسالة كثيراً, أجبتُ فوراً:
" أهلاً ياسر, انا بخير ومشتاقٌ لك
للغاية ولكل الشباب, كيف هم وكيف حالك انت؟
أتمنى لو أن ألقاكم أيضاً, لكن ربما الوضع صعباً
بالوقت الحالي.
ياسر هل لك ان تعطيني رقم هاتف مراد؟ وتخبرني كيف
حاله؟ كم أشتقت لهذا الرجل, كنتُ لأبحث عنكم جميعاً لكنني مررت بظروف صعبة شغلتني
طويلاً."
أجاب فورياً حيثُ أصبحت رسائلنا كمحادثة:
" جلال, ظننتُ أنك كنتَ تعرف, لكنكَ لا
تبدو كذلك! ألم تكن تقرأ الصحف؟
لقد.. مات مراد"
ما عاد قلبي بمكانه حال قرائتي للرسالة الأخيرة, مات!
كيف ومتى وأين ولماذا؟ لن أصدق ذلك, إنني أنتظر إنتهائه للعسكرية حتى يتيح لي
الأمر أن أهاتفه دوماً, وأرمي أحمالي إليه, كنتُ سأخبره بسري وبمكاني ولن أخفيه عنه,
أرسلت:
"ماذا! لا لا أعرف, متى وأين ولماذا؟ وكيف؟
انا أقرأ الصحف لكن لم أقرأ شيء كهذا؟
ماذا كُتب بالصحف؟"
أرسل:
" يؤسفني أنكَ لا تعرف, وأنني سأقول لك
ما يصعُب علي فعلاً قوله, لقد قُتل عن طريقِ الخطأ برصاصة عسكرية أثناء التدريب,
بشكل مريب.
تعجبتُ من جهالتك الموضوع لأنه حدث بعد هروبك
بحوالي أسبوعين, كتبت الصحف ذلك."
لا يُصدق, ولا يمكن أن أصدق, مات مراد, برصاصة
طائشة, الوسيلة ذاتها! إنها الخطة نُفذت بكل الأحوال, نعم لقد كانت هذه خطته,
ومراد كشفها, وأخبرني بها بطريقتة, وسعى لأهرب من أجل ذلك.
جائتني صور مراد مجتمعة كأنني أجلس بغرفة ضيقة
للغاية جدرانها مليئة بصور مراد, تحيطني من كل اتجاه, كلما استدرت الى جهة وجدتُ
مراد بصورة أمامي.
وكانت أكبر صورة تغطي الجدار المواجه لي, صورته في
ليلتي الأخيرة بالمعسكر, حينما أيقظني وأخبرني بأنه توصل للحقيقة, وكُشِف بتلك
اللحظة من قِبل الضابط.
كدتُ أفقد صوابي, يستحال أن يكون ذلك قد حدث فعلاً,
قمتُ من أمام الحاسوب وأشعلتُ سيجارة, وقفتُ أمام الشباك مصدوماً, كنتُ كالمصاب
بصدمة نفسية, او كنواة أرضية تكاد تنفجر
من شدة حراراتها, او كهزة أرضيه عنيفة أفقدتني الإحساس بأعضائي والإدراك بما حولي,
عدتُ للحاسوب حيثُ أرسلتُ رسالة لياسر:
" ياسر, هل يمكنكَ أن تخبرني بتاريخ
الصحيفة التي أصدرت خبر مراد, سأصل لها عبر الإنترنت لكنني بحاجة لتاريخها"
بعد ربع ساعة, أرسل لي ياسر رسالة تحمل تاريخ
الصحيفة, مضيفاً أنه وجدها عند سعيد الذي احتفظ بها كخيبة صديقه الذي قُتل غدراً.
بحثتُ عنها عبر الإنترنت حيثُ توصلتُ لها بسرعة,
بدأت أبحث بها دون ملل حتى صادفتُ الخبر البائس:
" رصاصة طائشة تقتل متدرب عسكري :
قُتل صباح اليوم متدرب عسكري يُدعى مراد صلاح إثر
رصاصة خاطئة خلال التدريب في المعسكر الكائن بحي النورس, وذُكر بأن القاتل هو
متدرب عسكري كان يحاول التمرين على التدريب. وتم نقل جثمان المتوفي لدفنه, ومازالت
التحقيقات جارية حول النطق بحكم القضية."
ضربتُ يدي بشاشة الحاسوب, شعرتُ أن روحي تغادر
جسدي, لم يُتهيء لي أن تصل الحدود الى هنا, يُقتل صديقي عوضاً عني! لمجرد أنه ساعد
في تهريبي؟ وكشف حقيقة الضابط, فكيف إن عدتُ انا للوطن, وواجهته! ماذا كان ينوي
حينما رآه مراد؟ وحينما حدق به فجأه في تلك الليلة لتصل حدوده لقتله؟ماهي حدود سرية
ما يدور في باله؟ ليقتله لمجرد أنه رآه وهرّبني!؟
وكيف لهذه الصحيفة أن تكون بهذه الصفاقة؟ وتذكر
بصورة عابرة أنه قُتل, وتنتهي بنقطة!
ماذا عن أحلامه وآماله وطموحاته, وماضيه ومستقبله,
ماذا عن عائلته وأحبابه وأصدقائه, ماذا عنه هو؟ عن إنسانيته وحقوقه, كل ذلك ذهب
وراء تلك النقطة التي نهت بها الصحيفة ذلك الخبر.
فليذهب الإنترنت الى الجحيم, وليذهب فاعل تلك
الجريمة أيضاً, ما يحدث لا يُحتمل, ولا يُصدق, أحلم أن أستيقظ من نومي, لأجد نفسي
في كابوس عابر.
اتصلتِ بي في تلك اللحظة, كنتُ مشوشاً لا أجيد
النطق بكلمة, ودتُ لو أنه كان باستطاعتي أن أرمي إليكِ همي وأشكو لكِ, إلا أن كل
ما فيَّ بسبب أباكِ الذي أعجز معه قول أي شيء, أخبرتكِ أنني مشغول بكتابة مقالات
برفقة أصدقائي حالياً, وسأهاتفكِ لاحقاً, وحينما هميتِ لإغلاقِ الهاتف وجدتُ نفسي
فجأة ألاحقكِ قائلاً:
ياسمين ياسمين.
أجبتِ: ها؟ تريدُ شيء جلال؟
- ماذا أسميتي ابننا؟
- جميلة اختارت له اسم مهند.
- ياسمين.. أسميه مراد.
********
الوقت, الوقت ولا شيءٌ آخر, الوقت الذي يمر فيه كل
ثانية بسنة.
الجو باردٌ جداً, وصوته بأذني يشق الدفئ, لكنني
بعكس العالم, الشتاء يشعرني بالدفئ..
ها انا أمشي بين الزقاق والشوارع، أنظر الى
البيوت، القصور، المباني الضخمة, والى أجسادٍ مرمية على الأرض دون كساء ولا مأوى،
فحقاً ما أجمل أن تعيش فقيراً بصحبة القليل من الخير في وطنك على أن تعيش عيشة
الفقراء بهذه البلاد الأجنبية.
في الحقيقة, هذه البلاد جميلة جداً, مرتبة ومنظمة
بشكل جذاب مريح, يعجبك جوها ومبانيها وأسواقها ومقاهيها, لكن لا يعجبك أن تكون فيها
صامتاً غريب.
أشتاق, إني أشتاق بالولع, لأمي,لأبي,لجميلة,لصديقي
مراد, لكِ ولابني, وللوطن أيضاً.
هناك خلايا وطنية تسكننا, فشأنا أم أبينا الحنين
يغلبنا للعودة,وفي ضوضاء الغربةِ نتسائل,
هل حقاً نحن نحب الوطن الى هذا الحد؟
أبحر بنفسي الى الأعماق حيثُ أنتِ، صورتك التي
كانت ببالي طوال عسكريتي كانت عبارة عن فتاة حزينة تجلس عند زاوية أريكة تضع يدها
على خدها، ودموعها تسيل بلا تكلف.
أما الآن، نفيي أصبح يرسم صورتكِ امرأة تضع طفلها
على حجرها، تلاعبه تارة وتهز له ذراعيها لينام تارة أخرى.
أريد أن أعود يا ياسمين، لأرى هذه الصورة، لا أريد
أن يقمع القدر مني صورتكِ، ليضع مكانها صورة سيدة تربي طفلها الوحيد وهو يكبر أمام
عينيها كاليتيم.
لا أريد أن تتحملي هذه المسؤولية بمفردك، لا أريد
أن يُشَد وثاق طفلي الأول بصلب امرأة، أنتِ أعظم من امرأة يا ياسمين، لكنني أردت
أن أرمي رجولتي التي صنعتها الى ابني الأول، أريد ان أراه أمامي كيف يصبح
رجلاً،ولكن ها انا أجيد الكلام، وأجيد الحسم على الكلام، وأعجز عن الفعل بكل أشكاله,
ما لقساوة ذلك عليّ.
ركبتُ في القطار الواصل الى شارع ٩٦، حيث توجد
الشركة التي أعمل بها، جلستُ قليلاً حتى طلوع امرأة للقطار، لم يكن هناك كرسيٌ
فارغ، وسرعان ما وقفتُ وأهبتها مكاني، كان ذلك غريباً لردود فعل الجالسين، ونظرات
بعضهم ممن لا ينشغلون بشيء كالموسيقى والقراءة والنوم، كانت ردود فعلهم تعبر عن
التحديق الشديد، فكرتُ فيما لو أن تصرفي الأخلاقي الواجب علي وعلى أي شخص مكاني
فعله كان قد جعلهم ينظرون لي هكذا، إلا أنني عجزتُ عن فهمهم، هل هم معجبون بي أم
أنهم منفرون من تصرف غير مجبور.
شعرت برغبة في الضحك، حتى أوقفني الشعور رؤية فتاة
جميلة تجلس بجانب الشباك تتأمل الطريق، دون إكتراث لأيٍ ممن يصعد او ينزل او حتى
يجلس بجانبها.
وقوفي في القطار، وتشبثي بالعمود المحاذي لباب
القطار كان يساعدني في توزيع نظراتي على جميع الجالسين، كانت تلك الفتاة تجلس
أمامي مباشرة، حتى أنني كنت أنظر لها بحرية تامة، خاصة وأنها كانت مستديرة بإتجاه
الشباك لا تنظر لأحد.
لا أدري لماذا طال تأملي بها، ربما لأنها كانت
جميلة جداً، كأي أوروبية يجذبك جمالها وتميزها، لكن سرعان ما بدأت المقارنة
توقظني، ياسمين أجمل! ياسمين تفوق جمالها بكثير، انا لا أحب الشعر الذهبي القاني،
أحب البنيُ الكستنائي، كياسمين تماماً، كلتاهما رشيقتان، لكن ياسمين رشاقتها أجذب
- مع العلم أنه لم يكن هناك أية فرق- إلا أنني بدأت أتصنع الحيل لأثبت ذلك لنفسي،
وصلنا الى المحطة الأخيرة حيثُ كنت أول من سيغادر القطار لوقوفي بجانب الباب، نظرت
لها آخر مرة كوداع أخير، وقلت لنفسي مغادراً: بماذا تنظر و تقارن يا غبي؟ يشهد
العالم جمعاء بجمال ياسمين وجاذبيتها، فتاة عربية أصيلة.
********
اليوم هو الخامس من آب, بعد مرور ثلاثة سنوات في
المنفى, وصلني اتصالٌ من أمي تخبرني بأن جميلة ستتزوج, وفي الأسبوع المقبل سيكن
زفافها.
مرّت الأيامُ عليّ سريعاً, منذ أيامٍ معدودة دخلت
جميلة الجامعة وكبرت بسرعة, واليوم ستتزوج.
وابني الصغير, أصبح ما يقارب السنتين ونصف, ماذا
تجيبين يا ياسمين حينما يسألكِ عني؟ سألتها وقد اكتفت بأن تجيبني:
أجبته, أن أباه بطلاً في المنفى..
تنعتني ياسمين العنيدة بالبطل..! وأتأمل انا تحت
مظلة الشكوك, هل حقاً انا كذلك؟
ما فائدة البطولة يا تُرى؟ أبقتني حياً؟ أم أهدتني
القوة لأهرب من الموت؟!
ربما أنظر الى الأمور من مقياس غير منطقي, ولكنني
أجد أن الحياة لا تُعاش بالعزلة, ومهما صنعتُ لنفسي أصدقاء ومعارف ها هنا, إلا أنني
لن أصنع أماً وأباً وزوجة وابن.
في الوطن قمحاً وأطيان، زيتونا وريحان، في الوطن
رائحة أمي، إطلالة أبي، في الوطن أختي الصغيرة ستتزوج، وانا بعيد لا أجيد الفرح،
لا أتمكن من معرفة التفاصيل، أعجز عن وقوفي بجانب أختي في ليلة زفافها، في الوطن ابني
الصغير، أعجز عن ملامسة جسده، أموت وأحيا ألف مرة بعيداً عنه، في الوطن زوجتي
الحبيبة، التي لم نلبث على زواجنا العام، حتى فارقتها كما يفارق الروح جسدَه، في
الوطن أراوحٌ ما عدت أتنفس بعيداً عنها.
********
" لا تكرر نفس السنة 75 مرة وتعتبرها..
حياة "
روبن شارما.
اليومُ انا أصبحت مؤهلاً لأكترث المزيد من جهدي
ووقتي لأفعل شيء جديد, راتبي من العمل في الشركة جيد وكافي وكذلك يُضاف عليه راتب
الكتابة في المجلة, أرسل ثلاثة أرباع الراتب إليكِ عن طريقِ فراس الذي يزور أهله
كل فترة في الإجازات والمناسبات, وأحتفظ بربعٍ يكفيني تماماً, سبق وأخبرني والدي
بأن لا أعاود إرسال المال إليكِ, وأن أحتفظ به لنفسي لأنني بحاجة له في غربتي, وأنه
متكفل بكِ وباننا, إلا أن ذلك غير مقبول بالنسبة لي, فأنتِ وابني مسؤولانِ مني
أينما كنت, وعملي هنا من أجلكم, وهذا ما كان يُلذذ جهدي وتعبي في العمل.
قررتُ أن اُصدر مجلة خاصة بي, أكتب بها ما أشاء
وأُشارك بها شخص واحد فقط, إن إصدار مجلة في هذه البلاد أمر عادي وسهل, ولا
يحتاج لرخصة إصدار, يمكن لأي شخص أن يكتب ما يشاء ضمن حدوده وينشر.
خصصتُ مبلغاً لبدأ مشروعي هذا, إلا أن فراس لم
يقبل الخروج معي عن مجلة الجامعة, فعرّفني على صديق له يدعى إيهاب, أحبّ العمل
الخاص والمشترك معي.
كان هدفي وضع مبادئ وقيم عربية بشكل غير مباشر, من
خلال قصص يومية وأحداث تتجسد فيها الحكمة والموعظة, وتتخللها القيم الإسلامية,
وكذلك وضعتُ جانباً ترفيهياً من قصص مضحكة و أخبار كوميدية, وجانباً فيه أهم أخبار
ملخص الأسبوع, ما كلّفنا تقاسمته مع أيهاب, وتقاسمنا العمل والكتابة بها, هو تكفل
بالجانب الترفيهي والأخبار المهمة, وانا تكفلت بالجانب الآخر, كذلك و تكفلتُ بنشرها.
أسميتها "قلب الياسمين" معتبراً أن
الياسمين يمثل الحياة, والمجلة تمثل قلب ومحتوى هذه الحياة.
نجح مشروعنا بشكل مميز, تم نشر المجلة بشكل واسع
حيثُ كان ذلك سهلاً, وخصصتُ نهاية أسبوعي للكتابة والتفرغ لها.
********
إنه ديسمبر, وصوت المطر يغني لي, أقف أمام شباك
المكتب وأحلق بعيداً, أفتح شرفةً من الشباك واستنشق الهواء البارد. رائحة المطر,
آآه, تلك الرائحة حينما تختلط مياه المطر بتراب الأرض, وتنساب الرائحة بعروق دمي,
ويجري هواء الشتاء البارد في شراييني, كم أعشق الشتاء.!
ثم أغلق الشباك وأقف أتامل, ما أجمل كل أم تحتضن
ابنها تحت المظلة, وكل محبوب يجري مع محبوبته, حتى كبار السن, ما اجملهم وهم يتأملون
الشتاء تحت مظلات المحلات التجارية.
أتعرفين ماذا يخطر لي في هذه اللحظة؟ كلمات الشاعر
نزار قباني, شاعر الحب.
أخافُ أن تمطر الدنيا ولست معي..
جميلٌ هو المطر, لكن غير مكتمل, يغني لي لكن صوته حزين, حتى قطراته
تبدو لي غير نقية, هل حقاً كان كذلك بالنسبة للشاعر ومحبوبته ليست معه؟
من ثلاث سنوات, أتيت الى هنا ميقناً أنني لن أمكث
وحدي أكثر من أيام او أسابيع وربما شهر على الأكثر, وبعد سنة, فاجئتني صدمة أنني
كنتُ بعيداً عنكِ طوال هذه المدة, والآن, انا اكتسبتُ مناعة الصدمة من أي شيء, بتُ
أتوقع أي شيء بأي لحظة, وجاهزٌ لأي أمر مهما كان قاسياً وصعباً.
ذهبتُ نحو الهاتف واتصلتُ بكِ:
حبيبتي.
- جلال, اشتقتُ لك, كيف أنت؟
- بخير, كيف أنتِ والجميع؟ وكيف جميلة وزوجها؟
هل هي سعيدة معه؟
- الجميع بخير, وجميلة سعيدة أيضاً, ينقصها
وجودك لتكتمل فرحتها.
- الحمد لله, كيف مراد الصغير؟
- هو بخير, انتظر سأناديه ليحادثك.
بعد قليل..:
بابا.
- يا عيون أباك, كيف حالك يا بطل؟
- انا بخير.
- اشتقتُ لك كثيراً, ألم تشتاق لي؟
- بلا, متى ستأتي بابا؟
- قريباً, سأنهي عملي هنا وأعود إن شاء الله.
صمتَ, وصمتُّ أنتظره يجيب, ثم جاء صوتكِ:
جلال.
- الولد لا يعرفني, من أين ستأتيه أشواقي؟
- بلا, يعرفك ويشتاقُ لك, مهمتي هذه, أنا
أخبرته بأنك كنت معنا طوال صِغره وسافرت بعد ذلك, لا تخف, إنه كأي طفل يخجل في
الحديث مع من لم يعتد عليه.
- أتعرفين كم هي مؤلمة؟
- تؤلم, المهم أن لا تيأس وتقتلك.
- ستقتلني إن شبّ ابني بعيداً عني.
- ستفرج, المهم أخبرني؟ ما هي أخبارك؟
- كل شيء كما هو.
- جلال, كنتُ أفكر بما لو أن تقدم للماجستير؟
متفاجئ: ماذا؟
- لم لا, تفعل شيء مفيد, ألا تتذكر أنك بدأت
بذلك ثم تركت بسبب العمل, عد وحقق حلمك.
- لا وقت لدي يا ياسمين, العمل يأخذ وقتي,
والكتابة أيضاً, ولم يعد عندي رغبة في الدراسة الآن.
- حسناً لا بأس, ما رأيك أن أرسل لك شهادتك
مع ذلك الشاب الذي ترسل معه المال, على الأقل تعمل بما تحب.
- خطرت لي الفكرة مسبقاً لكن لا أظن أنني
سأنجح بفتح مكتب مستقل هنا, يحتاج ذلك لمبالغ ومدة للشهرة, وكذلك فعملي هنا جيد
وراتبه جيد, والمدير شخص رائع لا أريد الإبتعاد عنه.
- كما تشاء عزيزي, المهم أن تكون مرتاحاً بما
تعمل. ما أخبار قلب الياسمين؟
- على أتم حال.
- ما رأيك ان أجمع لك مقالات بخط يدي, وأبحث
لك عن قصص وأحداث لتكتبها؟
صمتُّ أفكر, ثم أجبت:
هي فكرة جيدة لكن, هل لديك وقت لذلك؟
- بالطبع عزيزي, سأكون سعيدة بمشاركتك الكتابة.
- اذاً وافقتُ على إتخاذكِ شريك آخر, مع أنني
كنتُ مكتفياً بشريكي.
ضحكتِ: عزيزي, سأرسل لك ما أكتب وما أجمع عبر الإنترنت,
وأنت أضف تعديلاتك ولمساتك.
- إن شاء الله.
- جلال.. غداً سأذهب لأصلي, هل لي أن أصطحب
مراد معي؟
- ألن تكن أمي بالمنزل ليبقى معها؟
- بلا, لكنني أرغب في أصطحابه معي.
بلهجة إنكار مازحة: ربما كان باستطاعتكِ إصطحابه
دون أن تضطري لإخباري.
بنفسِ اللهجة: لكنني لن أفعلها, لستُ ممن يستغفل
غيابك لأفعل ما يغضبك ولا يرضيك.
ضاحكاً: بلَغتي معي أعلى درجاتِ المثالية, لا سيما
بنظري فحسب, لو لم تكوني زوجتي لتزوجتك.
ضحكتِ بصوتٍ عال حيثُ يرقص بضحكتكِ هذه قلبي, ثم هدئتي
تدريجياً حتى الصمت, قلت:
بإمكانكِ إصطحابه ياسمين.
بلهجة فرحة: حقاً عزيزي؟ ظننتك سترفض.
- لا لن أرفض, هذا دين أمه, يجب أن يلم به.
- أحبك جداً.
قلتِها بصوتٍ فرِح ينتابه ثغرات حزن, للبعد
والشوق, بعيداً جداً عن صوتكِ الحنون الذي أعتدت عليه في السابق.
رائعة أنتِ الى حدود السماء, تشاركيني كل شيء, حتى
الهموم والغربة, تشاركيني فيها, منفاي هذا هو منفاي عنكِ, أنتِ وطني وأنتِ الديار.
********
((خمسُ سنوات في المنفى))
مضيتُ برفقة عادل ومحسن يومين في مدينة سياحية
بالقرب من العاصمة التي نعيشُ فيها, أمضينا وقتاً ممتعاً بعيداً عن تعب وجهد
العمل, في جوف الليل, كنتُ أخرج من غرفتي للشاطئ, متمدداً على الرمال متأملاً
النجوم, علّي أعثر من خلالها على صورة اليدين التي رسمتها لي النجوم مرة, وأشرتُ
لكِ عليها.
هل لنا أن نتذكر صورة المستقبل الذي رسمناه
لأنفسنا في الصغر؟ وفارس الأحلام الذي اختلقناه؟ ونقارنها بما أهبنا القدر؟ هل لي
أن أشد يدكِ إلي ونواجه أقدارنا معاً؟ الأخيرة كانت صورة الحلم المستحيل التي كانت
تراودني كالمراهقين.
اليوم أكشفُ الستار عن عيوني, لتدخل الرؤية لشبكية
الرضى بالواقع, والإيمان بالغد.
موسم الشتاء ونزول المطر يفتح لي شهيتي على الجنون
مجدداً, وتقربكِ مني حتى أستنشق رائحتكِ كأنكِ جواري, لكن برودته تعادل برودة
المنفى والغياب, أتدرين؟ أشتاق لأن تغطيني ليلاً, ولأن أستيقظ قبلكِ لأمكث أمامكِ
أتامل نومكِ الملائكي.
الغربة أكلت من لحمي وقلبي ما أشبعها, وأنتِ,
تتداولين أفكاراً تحيط بكِ بصخب, هل من الممكن أن يكون عاش غربته دون ذنوب؟ واستمر
في الصلاة والصبر؟ ألم تقتحمه امرأة أخرى لتزيل عنه وحدته؟ ووحشة غربته وخيباته؟
أيُّ عصرٍ هذا الذي تتصل الأرواح فيه بسماعة هاتف بلاستيكية وإشارات صوتية؟!
تُشعرني هذه الوحدة بهشاشة في قلبي, باستثناءِ
عقلي, فما عاد قلبي يدق باب عقلي ليزوره مجدداً, بعد أن أفنته الغربة ليصرخ بوجهه
انا رجل, لا تطرق بابي..!
اليومُ انا أذهبُ لسوقِ المدينة لشراء مستلزماتي
برفقة فرويد -جاري-, الذي يعيشُ وحيداً في بيته, بعد فناء خمسيناتِ عمره بدون زوجتة
التي انفصل عنها,وفارق بنتاه اللتان رحلتا مع أمهما, نقضي وقتاً في السوق, ثم نذهب
الى أحد المقاهي, بفضله أصبحت أعرف معظم البائعين وأتعامل معهم دوماً, وأصبحت
زبوناً معروفاً في مقهى -ريتشر- الذي نقبل إليه دوماً.
يحادثني, بأن بعض الأيام يذهب للقاء ابنتاه بأحد
المقاهي بشكل سري لألا تعرف أمهما بذلك, ثم يودعهما خائباً ويذهب ليزورَ أباه في
بيتِ المسنين.
يسعى كثيراً لأن يثبت لي بأنه رجل صالح لأنه يزور
أباه ولا يقطعه, ثم يتسائل لماذا لا ترغب ابنتاي في لقائي بالمقابل؟ ولماذا لا
يجيدُ كسب محبتهما إليه؟
حقاً ما أسخف العيشَ بيقينِ مبدأ بُنيته خاطئة وهشة.!
لما لا نكون أقرب للواقع قليلاً؟ ونصدق أن الحياة
ليست مسرحية تلفزيونية ستنتهي برضى جميع الأطراف, او رواية تراجيدية موت البطل
فيها سيكن عدل النهاية. النظر الى ذاتك هو إنصافك لنفسك, والرؤية الإزدواجية
للأشخاص هي الإنصاف لهم, كأن تراهم بدواخلهم وأشكالهم الخارجية معاً دون أن تستثني
أحداهما وخاصة الأولى.
أنتِ يا ياسمين, ياسمين ناصر هلال, كما نفرتُ
دوماً أن أناديكِ به كاملاً, حتى قبل أن أتعرف على أبيك, كانت سلسة على مسامعي أن
تحملي كنيتي بعد زواجنا, لكن الحقيقة أنك ياسمين ناصر, وكنيتي ليست إلا إجراءات
قانونية مزيفة.
أخبريني ما فائدة أن تكوني مسجلة باسم ياسمين رضوان,
وعلى أسفل الإسم في خانة الديانة سُجل مسيحية؟ وكأن كنية أبيكِ في هذة الخانة تثبت
ذاتها بكل قوة.
صدقيني لا يهم, ياسمين هلال, او حتى ياسمين رضوان,
لا يهم كثيراً, دعكِ من الأسماء العائلية, فهي تضيف تكلفاً لا أكثر, لما نرى
الأشخاص باسمهم الأول فقط؟ لنستطيع أن نراهم على حقيقتهم دون تحميلهم ثقل الألقاب
الذي لا ذنب لهم به, ولنمنحهم العدل في ذواتهم الشفافية.
********
أجلسُ على كرسيِّ الخشبي المقابل للشباك, أغمض
عيني قليلاً وأستنشقُ شهيقاً طويل, أديرُ وجهي الى الحاسوب, يجب أن أبدأ في كتابة
مقال الغد, ثم يثقل جسدي عليّ ليمنعني أن أقوم, بينما أسترجع راحتي في الجلوس
الطويل والنظر الى الفراغ, وتعم الغرفة بالظلام مع حلول المساء, ويشتاحني النوم في
تلك اللحظات.
جائني موتي في المنام, رأيتُ أشخاص يحيطون بي من
كل اتجاه لا أعلم منهم أحد, ضجيجٌ وأصوات إسعاف وأضواء غريبة تحيط بي, كأن روحي
تنظر لكل ما حولي بموت جسدي, ثم استيقظتُ فازعاً وأخذتُ أنظر حولي لألا أجد أحد,
تحسستُ جسمي وشعرتُ ببردٍ مقشعر, ثم سمعتُ الأصوات ذاتها مازالت موجودة, فزعتُ
مسرعاً نحو الشباك فوجدتُ حادث سير أمام المبنى الذي أسكن, وأن الفوضى والضجيج كان
صادراً عنهم.
أتذكرين كم كان الموتُ أحد مخاوفي الساخرة, الآن
وحينما أتاني جاهزاً بدأ يثبت لي كم هو أمر عظيم, لا يخشاه نساءٌ دون رجال, او
أطفالٌ دون كبار, لقد أيقنتُ أن المسن الذي فنى عليه الزمان يخشى الموتُ في سره
كما يخشاه ابن العشرون.!
حينما يأتينا الموت, نخسر من ذواتنا متعة الدنيا, وفرص الترميم, ومشاعر القلب, حتى المشقة والحزن, نخسرهم حينما يكون بديلهم الموت.
أصبحت أشفق أحياناً على من ماتوا, فما هو الأسوء من موت أحدهم وهو لم يحقق حلمه بعد, وهو لم ينجز إنكسار روتيني في حياته, ويضفي لها نغمة موسيقية تُسكِن له حاجاته.
حينما يأتينا الموت, نخسر من ذواتنا متعة الدنيا, وفرص الترميم, ومشاعر القلب, حتى المشقة والحزن, نخسرهم حينما يكون بديلهم الموت.
أصبحت أشفق أحياناً على من ماتوا, فما هو الأسوء من موت أحدهم وهو لم يحقق حلمه بعد, وهو لم ينجز إنكسار روتيني في حياته, ويضفي لها نغمة موسيقية تُسكِن له حاجاته.
نحن بحاجة الى ذلك الأكسجين, ما يحصل مع اليائسون
من الحياة , أنهم يعيشون فطرة اللارضى دائماً, ويشتهون الموت الذي يرونه الراحة
باللاوعي, ومهما أُثقِلوا بالنِعم, إلا أنهم يرغبون دائماً أن يسيروا بالاتجاه
المعاكس للحياة, ويظنون أنه سيصلهم الى مرادهم ومبتغاهم.
أهدتني الحياة اليوم رسالة, هل اختبرتَ نفسك
بالموت؟ ونفضّت حواسك من برودة الفكرة؟ يجب أن تكون قادراً على الحفاظ باستكانتك
في المواقف الصعبة, وتهدي لعقلك الإتزان في الحكمة.
هل من الممكن أن يزورني الموت وانا هنا, وأموتُ
دون أن أرى ابني؟!
منفرة هي الفكرة, الى حد الإختناق.
********
في مطلع اليومِ التالي, ذهبتُ الى عملي صباحاً
حيثُ وجدتُ عادل ومحسن وموظفون آخرون يقفون جميعاً باب الشركة, تقف أمامها سيارة
إسعاف ويجتمع حولها أناس وزحمة غير اعتيادية, ذهبتُ باتجاه عادل ومحسن ملتفتاً نحو
الزحام, تسائلت:
ماذا يجري؟
عادل بنبرة حزينة: العمر لك, توفى السيد حاتم.
متفاجئاً: لا! ماذا تقول يا رجل!؟
التفتنا جميعاً نحو الإسعاف مترقبين الأحداث, ذهب
محسن نحو الموظفين الآخرين, قلتُ بنبرة حزينة:
إنا لله وإنا اليه راجعون.. كيف توفى؟ ومتى؟
عادل: أتيتُ قبل مجيئك بدقائق, لا أعلم شيء.
أقبل محسن بعد دقائق قائلاً: تقول سيلينا
-سيكيرتيرة المدير- أنه أُصيب بنوبة قلبية فجائية.
- يا اله, متى ذلك؟
- اليوم, من وقت قليل.
- لا حول ولا قوة إلا بالله, كان بكامل صحتة
البارحة, ماذا جرى؟
عادل: أيُّ صحة هذه يا رجل؟! منذ تعرفتُ عليه وهو يعاني
من النوبات القلبية.
متفاجئاً: ماذا؟
محسن: ألا تعلم أن السيد حاتم يعاني من النوبات
القلبية؟ سحقاً لابنه انا متأكد أنه السبب.
- هل لديه ابن؟
عادل: نعم, ابنه عاصي جداً, يفاجئ أباه بكل مصيبة
لا تماثَل بالأخرى, اعتاد على رفاق السوء في هذه البلاد, تالله ابن مجنون.
- ماذا تقول؟ لم أكن اعرف شيء كهذا من قبل!
أيعقل أن تكن نوبته بسببه؟
- بالتأكيد, وهل من آخر يسبب للسيد حاتم هذه
النوبات.
محسن: يا شباب,تُرى ماذا تظنون سيحصل بنا الآن؟
أخشى أن نقف عن أعمالنا وتُغلق الشركة او حتى تُباع.
عادل: بما ان ابنه الأحمق هو وريثه الوحيد,
فبالتأكيد سنتشرد بغبائه.
- يا اله! لهذه الدرجه؟
عادل: بل أكثر, أسأل الله أن يلطف بنا.
تداولت الأصوات المشوشة في المنطقة, ورحلت سيارة
الإسعاف حاملة جثمان السيد حاتم, شعرت بوجعٍ قاسي, لقد رأيته الأسبوع الماضي
وحادثته, كم هو صعب أن ترى أحدهم للمرة الأخيرة في حياتك, وما تدري أنها الأخيرة.
دخلنا للشركة, لم يكن هناك أية رغبة في فعل أيِّ
شيء, الحزن أملأ قلوبنا, وأملأني بآلام كثيرة, خاصة وأنني قد عرفتُ ما كان خلف
السيد حاتم من رواية, ولماذا أحتفى بي ومنحني موقعاً في شركته.
أتسائل فعلاً فيما إذا أُستُغنيَ عنا, بعدما
أعتدتُ على العمل هنا وحصلتُ عليه بعد سعي, أين سأذهب وأين سأبحث مجدداً, تُرى ما
الذي ينتظرك غداً يا جلال.
********
ومن وسائل القدر أيضاً أن أمراً لا تنتظر منه شيء
يحصل لك, وآخر سنحت له كل الفرصة ليعطيك شيء, ولم يفعل.
عدتُ للبيت, فتحتُ الحاسوب ومضيتُ في كتابة لم
تستغرق دقائق متقطعة, أغلقته حيثُ لا رغبة في فعل أي شيء.
أليسَ صعباً أن تعيشَ عُمراً بالمنفى, وتضيّعُ
أجمل سنين من عمرك عبثاً, وتقضي سنوات من شبابك في الهراء بلا معنى.
بل لا, ليس كذلك, انا لم أقضي عمري هنا لأكون هباءاً
بلا معنى, الموتُ كان يتربصُ بي من كل مكان, ولوحاتكِ الملونة تجري في أوردتي,
لكنني أعتب فقط على المنفى وعلى ما يتبقى مني الآن بعد أن فارقتُ أمي وحبيبتي
وأشواقي, وفارقتُ طفلي أيضاً.
أحتقن غضبي وفراغي اللامتناهي حول هذه الجدران,
وترجمني ياسمين أحياناً بمهاتفاتها لي, وأختزن انا ذلك, لأنني أعرف أنها تحتر
بحرقة قلبها, سنون تقضيها أرق إناث الأرض وحيدة, برفقة طفل صغير مايزال ليناً,
أرجمتني ذلك اليوم:
ماذا أجنيت أنت؟ أتنظر لما نحن فيه؟ تُرى هل سيذكرك التاريخ؟ هل سيصفق لك كل رجال
الأرض, وتحترق قلوب إناث الأرض إعجاباً فيك؟ ماذا أجنيت من فعلتك أخبرني؟
فأعي موقفها وأكتفي : أجنيت الحب المكابر المختزن
في قلبي, لكِ أنتِ.
آه يا ياسمين, هل يعرف الفاعل قوة الضربة التي أهداها,
وقيمة الموتِ الذي أهابني منه, ها انا أُقتل بأعلى صوتي, ولا حل عندي إلا أن أعيش
في هذه البلاد الغريبة, وأستيقظ وأنام على وجوه بائسة.
هل يعرف أن العيش على ذكرى امرأة قريبة منك بقدر
بعدها عنك, أصعب بكثير من العيشِ على فراقها طوال سنين.
لا أدري كم كانت أهدافه للإنتقام مني كبيرة, لكنني
متأكد..أنه كان يعرف.
الوحدة تهيج آلام كثيرة, والغربة تضخم بك التجربة
والرؤية, وتأخذ منكَ ما يلزمها لتتركَ لك الحدة, فتمسي في حدة البعد عن صفاءِ روحك
الطيبة, ونيتك البيضاء, وجسمك الطري.
صليتُ العشاء ورفعتُ يدي:
يا رب, بقدر كل لحظة ظلم عشتها هنا ببعدي عن أهلي,
عوضني بها بلحظة فرح وسرور, اللهم استبدل لي همي بفرجٍ قريب, ولا تتوفاني بعيداً
عن وطني, ولا تتوفاني إلا وأنت راضٍ عني, فانا أثق أنني سأنالُ فرجاً بعد صبري,
فانا صابراً وحامداً لكَ في كل حال, ورامياً يا الله حملي كله إليك.
أقبلت للسرير, وحينما وضعتُ رأسي على وسادتي,
نظرتُ لجانبي حيثُ وجدتُ صورتكِ أمامي, تخيلتُكِ تتأمليني وتبتسمين, ثم ذهبتُ في
نومٍ برفقة خيالاتكِ المحيطة بي.
********
في صباحِ اليوم التالي, استيقظتُ في حوالي الساعة
الثانية عشرة ظهراً, قمتُ من سريري مثقلاً بالنعاس والإرهاق, نظرتُ الى هاتفي المحمول
لأجد الوقت متأخر, بكل الأحوال لن أذهب للعمل اليوم, وربما لا يوجد عمل أصلاً,
وجدتُ اتصالات فائتة من خالي وأخرى من أمي, جلستُ على السرير وأخذتُ أمسح وجهي بكفة
يدي, حاملاً هاتفي باليد الأخرى, اتصلتُ بخالي, لكن لا من مجيب, خرجتُ من غرفتي
فوجدتُ رسالة صوتية من خالي على هاتف المسكن, فتحتُ أسمعها:
(بصوت هادئ) صباح الخير خالي؟ اتصلتُ بك أكثر من
مرة لكنكَ لا تجيب, هاتفني حينما تسمع رسالتي, إن لم أجيبك, انتظر اتصالي.
انهيتُ الرسالة متصلاً بأمي لكن لم تجيب,
شعرتُ بخوفٍ إنتابني, لا أدري لماذا, ربما هم من شعروا بالقلق لمجرد أنني لم أجيب.
دخلتُ للمطبخ محضّراً فنجاناً من القهوة, ثم
تابعتُ محاولات اتصالي بشكل متقطع, جلستُ على الأريكة سانداً رأسي عليها, غفيت
عيني دون نوم, بعد ساعة رن الهاتف فقمتُ فوراً, كان خالي المتصل, قال:
جلال.
- خالي, صباح الخير؟
- صباح النور.
- كنتُ نائماً لم استيقظ على اتصالاتكم, ما
القصة؟
- كل خير..كل خير.
- ها؟ ماذا؟
- لا أعرف كيف سأخبرك.!
- خالي ما بالكَ لا تنطق بحرف مفيد.
- جلال, مستعد لأن تتلقى؟
- أتلقى ماذا؟ أرعبتني خالي.
- ياسمين باتت في المشفى البارحة.
صرخت: ماذا! لماذا خالي؟ ماذا حصل بها؟
- جلال, توفي ناصر.
دوار قاتل أصاب رأسي, ناصر مات! وهل يموتُ هذا؟!
قلت بدهشة صارمة: ماذا تقول يا خالي؟! كيف
مات؟
- توفى, كأي متوفى! أصبح رجل كبير يا جلال,
وانتهى عمره.
رجل كبير! تالله كم هو الأمر مضحك بلا إستهزاء,
إذا كان عمره وقت العسكرية بين الخمسين والستين,وانا قضيتُ أكثر من خمس سنوات
بالمنفى, فلماذا أشعر أنه شاب مازال العمر أمامه, ليستمر في إنتقامه المفجع اللانهائي!
من كثرة الأفكار التي راودتني تلك اللحظة عجزتُ عن التركيز, لا أعرف لماذا تفاجئت
لهذه الدرجة, ولماذا كنتُ أحسب أنه رجل لا يموت, يقتل لكن لا يُقتل, عادت بي
أفكاري الى ياسمين التي أنستني المفاجئة السؤال عنها.
قلت: وياسمين؟
- لم تحتمل الصدمة, إنهارت من البكاء حتى
نقلناها للمشفى بسبب الهبوط الذي أصابها.
- وكيف هي الآن؟
- لن تصدق! كانت تبكي بحرارة رهيبة, وتندب
على نفسها لأنها عصته, ولأنه مات ولم تره, ومات غاضباً عليها متبرأً منها.
بهدوء حزين: ماذا تقول؟
- لا تحزن يا جلال, وأعذرها, كانت صدمة قوية
عليها, وخبر صعب جداً.
- لست غاضباً ولا متفاجئ, انا أقدر وضعها.
- لم تهدأ قط, تنام بصعوبة وتستيقظ تبكي, ولا
تأكل شيء, لذلك...
- لذلك ماذا؟
صمت, وأقلقني ذلك, تابعت:
خالي, قل أرجوك لا تصمت الوضع لا يحتمل مزيداً من
الصبر.
- جلال, سامحني, لكنني أضطررتُ لأخبارها بأن
أباها هو الضابط الذي ودّ قتلك.
صرخت: ماذا؟!
- أهدأ, لو كنت موجوداً ورأيت حالها لعذرتني,
بل وقلت لها بنفسك أيضاً, يجب أن تعرف أنه هو, يجب أن تعرف كم أنت رجل رائع, وكم
أباها الذي تنهار بسببه الآن رجل حقير, وهو سبب منفاك, وهو من أبعدها عن زوجها
طوال هذه السنين.
- ماذا فعلت حينما عرِفت؟
- انصدمت, ولم تصدق, كذّبت الخبر بالبداية وتوقفت
عن البكاء بعدها, لا أدري بماذا كانت تفكر لكنها بقيت مصدومة طويلاً دون النطق
بحرف.
- أتصدق يا خال؟ كنتُ أحلم أن تعرف لكنني
كنتُ عاجزاً عن ذلك, بما أن الكلام بيننا, انا الآن ارتحت, ليس لأنني ظهرتُ الرجل
الرائع أمامها فحسب, بل لأنني أريد أن تعرف من هو أباها, خاصة بعد أن قلتَ لي حالتها
هذه بسبب موته.
- كان لزاماً أن تعرف, أباك أيّدني لأخبرها,
انا وهو لسنا راضين بكتمان الحقيقة لكننا نفعل ما ترغب, أمك انصدمت مثلها تماماً,
لا تخف, صدقني ياسمين امرأة قوية وناضجة, ستتقبل الأمر وتعود كما كانت.
متنهداً: آآآه يا خالي, أرغب في القليل من الحزن
لأشعر مع ياسمين, ولكني مرتاح, أشعر براحة لم أشعر بها منذ أكثر من خمس سنوات.
ضاحكاً: هيا يا رجل, استعد للعودة الآن.
أغمضتُ عينايَ بقوة, وشددتُ يدي على سماعة الهاتف,
سعادة مفرطه وصلت الى حدِ عنقي, لم أشعر بها من سنين, لم أكن مرتاحاً سعيداً لهذا
الحد من سنين طويلة, فاجئه الموت, الشيء الوحيد الذي لا يقف أمامه قوة.
قلت: ماذا سيحصل بي حينما أعود؟
- بالتأكيد سيتم محاكمتك فوراً لأنك هارب من
العسكرية, واسمك موضوع على الحدود, ولكنك ستعود لحياتك بعد ذلك, القضية التي بينك
وبين ناصر سريّة هو وحده يعلم بها, والآن موته منحك حريتك.
- لا أصدق أنها فرجت فعلاً!
- ألم أقل لك, ستفرج بإذن الله, غداً ستخرج
جنازة الضابط, سيشيع جثمانه بجنازة ضخمة نظراً لمكانته ومنصبه.
- وسأشيع انا جثمان الماضي أيضاً, وأعود..
********
انا المستقل من الخوف الضامر, انا رجلُ الظل في
نجمِ الشمس, انا البطلُ الذي أخذه القدر للإنتظار الطويل, منتظر أمام محطاتِ
الإنتظار ذلك الفرج, جامعاً حفنة من الزمزم في كفتا يدي.
عائدٌ إليكِ, محملاً بالورودِ وكل الحب,
عائدٌ كشاب صغير, لم يلبث على فراقكِ طويلاً, رغبتِ بحياة هادئة, وبيتٍ صغير, وكان
حلمك الرجل المثالي البطل, فمنحتكِ الحياة ما أردتِ بصحبة القليل من الصبر.
ولكن, أتصدقي؟ انا لستُ كما تظنين, لستُ الفارس
ولا الشجاع ولا الذكي ذو الحنكة, ولستُ سيئاً ايضاً, ولكنني كباقي الرجال, أضع
قالباً مثالياً حينما أحب.
كتبتُ مقالي الأخير في المجلة تحت عنوان "أمسية
الياسمين", وفي هذه المرة وثقّتُ المقال باللغة العربية إضافة للأجنبية, موجهاً
رسالتها للعرب الذين يعيشون هنا, سواء كان بإمكانهم العودة أم لا.
وقّعتُ في آخر المقالِ أسمي مضيفاً إليه كلمة وداع
شخصية, تاركاً تلك المجلة لإيهاب وحده.
بعد أسبوع, مضيته بترتيب أوضاعي وتهيئة نفسي للعودة,
ودّعتُ أصدقائي وزملائي وجيراني, نزلتُ للسوقِ لأودّع الناس, ولأودّع الأماكن
والمقاهي التي كنتُ أعتاد, ودعتُ شوارع المدينة والقطار السريع, والطريق الروتيني
بين مسكني والشركة, زرتُ قبرَ السيد حاتم, ودعته, ودعتُ خمس سنواتٍ من عمري, لآخذ
من هذا الوداع, ما ودّعته قديماً.
اتصلتُ بأمي, حدثتها قليلاً ثم طلبت الحديث معكِ,
أنها المكالمة الأولى معكِ منذ وفاة والدكِ, كانت أمي تؤجل حديثي معكِ لوقت أنسب
تصبحين فيه أفضل, كل مرة كانت تقول لي أنكِ مازلتِ بغرفتكِ وحيدة ترفضين الحديث
والأكل.
قلت: ياسمين.
بصوت منخفض منهك: جلال.
تغيرت نبرة صوتي لمنخفضة و مواسية: العمر لك.
أختنق صوتك كأنكِ تبكين, صمت كلانا للحظات, ثم
قلتِ باكية:
مات أبي يا جلال, مات!
أخذتِ تبكين حيثُ عجزتُ عن إيقافك, قلت بعد حين
حيثُ بدأتِ تهدئين:
هذا حال الدنيا, رحمه الله, أدعي له فهو أنفع.
- لماذا لم تخبرني؟
صمتّ, تابعتِ: كان سينتقم منك, وهو من أبعدك
وعذبك, لماذا لم تخبرني؟
تابعتُ صمتي ولم أجد إجابة, تابعتِ بصوتٍ خافت:
ومازلت تحبني جلال؟
- ما ذنبكِ أنتِ؟ لا تفكري بهذه الطريقة قط,
حبي لك هو ما دفعني للكتمانِ والإحتمال.
- كنتُ أعرف أنك تحبني بجنون, بمقدار حبي المجنون
بك, لكن لم أتخيله بهذا الحد المفرط!
- ليس مفرطاً, إن كل ما في الأمر أن الرجل
الحقيقي الذي يحب, يجب أن يوثق كلامُ حبه بأفعاله, وإلا, فهو مراهق تافة.
أختنق صوتكِ مجدداً: جلال, لا أحتمل فكرة موته.
-ادعي له حبيبتي.
- سأصلي وأدعي, ما أسوء شعور الموتِ والفراق.
- هو ذهب, وانا سأعود حبيبتي.
شهقتِ ضاحكة: حبيبي, صليتُ لأجل هذا اليوم طويلاً,
طويلاً يا جلال.
- الحمد لله يا عزيزتي, فُرجت علينا.
- الحمد لله, سأنتظرك عزيزي, وأسأل الرب أن
يحميك ويعيدك إلي سالماً.
- أريد أن تصبري وتعودي لي كما كنتِ, ولا
تُضربي عن الأكل مطلقاً, أتفهمين؟
ضحكتِ: فهمت..
********
لقد اعتدنا أن يكون الموت سوءاً, حتى أنه إن ذُكر
يقولون: "بلا شر" او "شرٌ بعيد", فيُعتبر شر ويخشاه الجميع,
لكنه يحمل خيراً في كثير من حالاته, وفيه رحمة لا يمكن للكثير أن يؤمن بها.
ذهبتِ لبيتِ أبيكِ مشحمة بسواد, فتحت لكِ أختكِ
الصغرى التي أصبحت الآن شابة جميلة مثلكِ تماماً, عانقتما بعضكما بحرارة لا توصف,
ثم دخلتِ للبيتِ تنظرين الى زواياه ومقتنياته, تتلامسين بكل زاوية ذكرى طفولة, وفي
زوايا أخرى تلتمسين وجعَ الماضي وأحداثه القاسية, أقتحم أباكِ لحظاتكِ الجميلة,
وأقتحم دواخلكِ البريئة أيضاً, تصلين الى الصالة الفخمة, وتذهب عيناكِ في وجعٍ
مفجع الى صورة أبيكِ الموضوعة على الحائط, يغطي طرفها شريط أسود, وتدمع عيناكِ.
تقبل أمكِ للصالة لتجدك, تلتفتين نحوها وتغرق
عيناكِ الدامعتانِ بالنظرِ إليها, تشهقين وترتجفين بعنف, حتى تفترسكِ أحضانها,
وتعانقا بعضكما ببكاء صارخ.
أخبرتيني أن أختك قد حدثتكِ أن أباكِ كان يعود في
أحدى الفترات بوقت متأخر جداً, وعلى غير عادته أحياناً ينام خارج البيت, عرفتُ
وعرفتِ أيضاً أن تلك كانت فترة عسكريتي, أخبرتني أيضاً أن أختكِ عانت من تشدد
أباكِ عليها وقسوته المضاعفة بعد أن تزوجتي مني وغادرتِ المنزل.
********
لم يعد هناك ما يهم..
هارباً انا من بلاد الغرب إليك وطني, هادياً إليكَ
كل ما بحوذتي, هارباً من سطوة العزلة, ومن غدر الموتِ فينا. عدتُ إليكِ,
متأخراً قليلاً, حاضناً زقاق الوطنِ ورائحة الياسمين.
كم تتغير البلاد عبر السنين, وتقامُ المباني
والمجمعات في كل شارع مثقلة بزحامِ البشرِ والضوضاء, كأنني كنتُ راحلاً عنها من
ألف سنة.!
يمكنني الآن أن أتخلى عن شهوة الكتابة, وأرمي
الماضي الذي جردته اليوم من أعمق حواسي للخلف.
أنتَ الآن يا ناصر, وهي المرة الأولى التي أجردكَ
من لقبك, في قبرك لا حول لك, ولأنني مسلم, لا يجوزُ لي إلا أن أطلب من الله أن
يغفر لكَ ويرحمك.
لا أنكر أنك رجل ذكي, لم ترغب في القتل فحسب, فهذه
طريقة تقليدية ومملة, إن الحنكة في قتل ما هو حي دون أن يقف قلبه عن النبض
ليموت كل يوم, وليس مرة واحدة فحسب, كنتَ توّدُ قتلي, لكن القدر وقف معكَ ليجعلك
تفعل معي الأكثر من ذلك, لا أعلم حقاً كيف خدمك القدر لتحقق هدفك بكل الحالات,
إنني فعلاً أجهل حتى هذه اللحظة ماذا كانت أبعاد أهدافك التي جعلها القدر نصيبي
الذي لا مفر منه, إن الشيءُ الوحيد الذي جدت فعله بحياتك, أنكَ ورّثت ياسمين
الصمود.
عدتُ للوطن حيثُ طال إنتظاري على الحدود عند فحص
الجوازات, اسمي كان ممنوعاً من السفر, أقبل عندي شرطيّ بعد انتظار ساعة, طلب مني
مصاحبته لغرفة الإدارة, حققوا معي ببعض الأسئلة, ثم نقلوني مباشرة لقسم شرطة
المدينة, هناكَ أكملوا التحقيق معي ووضعوني بحجز مؤقت الى حين نقلي للنيابة العامة,
طلبتُ من الشرطي المسؤول أن اتصل بعائلتي لأخبرهم بمجيئي, هاتفتُ خالي وأخبرته بما
حدث معي, وفي صباح اليوم التالي أقبل الجندي عندي في غرفة السجن ليصطحبني لغرفة الزيار
لأستقبل أهلي.
كانت الزيارة في بداية الأمر ممنوعة الى حين أن
أُنقل للنيابة او على الأقل حتى ينطق بحقي حكم, لكن خالي يّسر لي أمر الزيارة
المستعجَلة.
خطواطي الى الغرفة كانت تشبه زحفاتِ رجلٍ في صحراء
نحو الماء, فتح الجندي الباب دافعني للداخل بهدوء, حيث.. أمي, وأبي, وخالي, وجميلة
وزوجها الذي أراه لأول مرة, وأخيراً أنتِ, وطفلي الصغير.
فتحتِ عيناكِ علي فجأة, كفجيعة المفاجئة التي تشقق
الأوردة وتغلي الدم, أرواح الجميع تحلق بالأفق, شعرتُ ببرودة مقشعرة أرجفتني, ليس
لرؤيتهم ولكن لرؤياهم هم إليّ, حدقتُ في عينا مراد الصغير, باذلاً قصارى جهدي
لأمتص دموعي التي هزمتني و ذرفت, بحث مراد في لغة حركاتي ونظراتي عن نفسه, نظرتُ
إليه أقيسُ مقدار سخافة أن يرى أبٌ ابنه لأول مرة بعد مرور سنوات, ضحكتُ في وجهه
البريء الذي يتأملني خاجلاً, وفتحتُ له ذراعيّ حتى ركض باتجاهي يعانقني.
انحنيتُ على ركبتيّ أعانقه بحرارة خشيتُ عليه من
قوتها, ذارفاً كل حوذتي من البكاءِ, نظرتُ الى عينيكِ وانا أعانقه متأملهما بعد
طول سنين, لتنظري لي نظرة ممزوجة بين دموعكِ المتفجرة وابتسامتكِ الرقيقة, لا
تختلف كثيراً عن آخر مرة ودعتني فيها.
تغيرتِ ياسمين, تغيرت فيكِ معالمٌ لم أستطع أن ألتمس
معرفتها, وجهكِ أصبح مليء, مليء بالحزن والإرهاق والتعب, مليء بالروايات والقصائد,
بالحب والشغف, وجنتيكِ حفرتها الدموع,
بالرغم من أن دموعكِ في هذه اللحظة كانت تضحك, ومازلتِ أجمل نساء الكون, أجملهن يا
ياسمين.
لم يكن بوسعي أن أجمع بين رؤية أهلي المتفاجئة وشعوري
بالسعادة بها, كلهم كانوا على غير حال, جميلة تغيرت كثيراً, أصبحت بغاية الجمال,
وزوجها رجل بقمة الوسامة, تغيرت هيئتها وأصبحت أجمل, وأبي, شاب أكثر فأكثر.
وحدها أمي من شعرت أنها مازالت كما هي, بنفس الحنية
والرهف الذي بين عينيها.
كانت أمي تشدُّ على يديّ أبي تختنق دموعها وهي
تراني أعانق ابني باكياً, وجميلة تشهق اللحظة بمقدار قوتها.
لحظة لا تكد تُنسى او توصف, إنها تُقدر بحرارة
الشعور بها فحسب, لحظة اللقاء.
وليس أيُ لقاء, إنه لقائي معكِ حبيبتي, ومع أهلي,
ولقائي مع ابني, ابني مراد, بعد خمس سنوات, فما لقساوة الفكرة.!
********
أمنح نفسك فرصة أخرى لترميم الحلم.
ممنون انا إليكِ, والى الحياة, تركتني أمضي نحو
تضحية مفتوحة, صدرها وسعني ووسع سنين من عمري, ولولا فضل الموت علينا أحياناً,
لوسع صدرها للمزيد.
مضيتُ إليكِ مغمض العينين, كفيفُ القلب, مغتالٌ
لكل ألوان السعادة العشقية, حاصداً في أعماقي ذكرياتٌ لم أهمل سقايتها أبداً.
وكلّ لي أبي محامياً, سعى لمساعدتي وتقديم
أسباب وحجج تنصفني, لإجتماع تهمة الهروب من العسكرية والخروج الغير قانوني من
البلاد من مدة طويلة,وتحمي فعلتي من الحكم السيء, طُلب مني مستندات وأرواق خاصة بي,
تدخل خالي بكل ما يستطيع ليخفف عني الحكم وما يتبعه, وبعد أسبوعين من الحجز, حُكم
علي بالسجن سنة وثمانية أشهر.
يمكنني من خلالها أن أراكِ وأرى عائلتي متى شئت,
لأعود بعد هذه المدة الموجزة إليكِ, والى حياتي معكِ ومع ابني.
********
وراء كل رجل عظيم..امرأة
"نابليون
بونابرت"
أيقنتُ اليوم أن الرجولة تصنعها الحياة والمواقف,
وأن الرجل موقف, وأيقنت أن امرأة قد تصنع رجلاً, والرجل الحقيقي, من يعترف بذلك.
أن تصبح طويلاً, ذو قامة وهيئة عريضة, وتتحلى
بلحيتكِ القصيرة, لا يجعلك رجلاً.
وأن تملك سيارة, وتشتغل في ما تختار, وتتزوج مِن
مَن أحببت, وتفعل ما تشاء, وحتى أن تتحمل مسؤولية أفعالك, لا يعطيكَ لقب بطولة.
كنتُ أعرف ذلك بل ومؤمنٌ به أيضاً, لذلك, رغبتُ من
الحياة أن تجعلني رجلاً بلقب بطل.
شكراً لكِ ياسمين, معكِ تعلمتُ أن لا أكتب مبادئي
على ورق, بل أنحتها على الصخر, وعرفتُ أن لا حقيقة تفوقُ حقيقة الحب, وأن الموقف
الحقيقي يكونُ رجلاً, ولا من واقع سيضعنا على حافة المستحيل, والمسؤولية هي أن
تكون دوماً مستعد.
خيبة امرأة من رجلٍ حقير لم توثق في قاموسي
مسبقاً, ولم يعهد لي أن عبرتُ بها.
لطالما كنتِ امرأة وردية تحمل من رائحة الحبِ
وحبرِ القصائد ما يُعلقها في متحفِ الجنة, آمنتُ أنكِ المرأة الوحيدة التي تستحقُ
أن تعيش عمراً طويل, لإشباع جوعها من الحبِ والوحدة, لأن الصبرُ على شيء
فارقناه للأبد أهون بكثير من الصبر على ما هو بين أيدينا ونعجز عن التقاطه.
أيقنت أن القدرُ ليس إلا كاتباً سلطان, يكتبُ
الرواية ويجلس بين المتفرجين يتابع أحداثها, يدرك جيداً أن كل ما يجري ليس إلا
صورٌ درامية تؤدي دور التمثيل الحي, لكنه يقدّرنا بشكل جيد, يزقف بحرارة في نهاية
كل مشهد, متعجباً, من مواقفِ الأبطال التي لا يد له ليحركها.
لا أختلق الحكم والكلام, إنني فعلاً أقول ما أشعر
به فقط, لا أدري كيف استطاعت الحياة أن تكشف لي ولها قناعي القوي, وتخرج من جسدي
رجل, كل لحظة عنفوان مرت عليّ هي الآن تنصفني, خاصة في هذه اللحظة التي أجلس فيها
في سجني أتناول من طبخِ أمي, وأتحلى بحلوى الشوكولاتة التي أعدتها لي, وذاتها التي
كنتِ تحضرينها لي سراً أيام الجامعة.
********
ياسمين.. لو كان لي ألفُ قلب, سأحبكِ بكل قلب ألف
مرة.
تزوجتُ منكِ وتحملتُ مسؤولية ذلك, وكانت النتائج
أعظم مما توقعت, وأقسى بكثير مما كنتُ متوقع أن أحتمل, لكنني تحملتُ ذلك من أجل
حبكِ الذي منحني القوة.
نُفيتُ وعشتُ بعيداً عن وطني سنين, هارباً من
عسكرية عذبتني كثيراً, وكان عذابها عادياً بعد ما رأيته من عذاب النفي, رأيتُ في
بلاد الأجانب أشياءٌ كثيرة, مواقف وظروف صعبة, ظننت نفسي رجلاً أحتمل ولا يهمني,
لكنها رمت بي الى أقسى مما تصورت, قُتل صديقي, وفارقتُ زوجتي, وتغربتُ عن عائلتي,
وهربت من الموت من أجل طفلي, وها انا اليوم في أحضان وطني, أبدأ في حكاية من جديد.
والآن, الآن فقط بعد كل ذلك, يمكنني أن أنعت نفسي
رجلاً.
********
تستحق الحياة منا أن نقف عند محطة تحدي, ونغامر.
انا لم أفعل شيء, انا أحببتك فقط, أحببتك كثيراً.
ولن تُفهم المصطلحاتُ العربية حينما يفوق شعورك بها
عن قدرتك بالتعبير عنها لفظياً.
أحببتكِ, وقضيت عمراً بعيداً عنكِ.
في المنفى كنتُ يا سيدتي, ولكن لأنكِ وطني ومازلتُ
أعيشُ فيك, فلم أكن منفياً انا.
ألم أقل لكِ.. أنكِ فقط الوطن.
نابلس- فلسطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق